تعتلي السَّيِّدة ماجدة الرُّومي، في اليوبيل الذَّهبيِّ لاحترافها الرِّسالة الفنيَّة (1974 – 2024)، أحد مسارح دبي، بدعوة من دولة الإمارات العربيَّة المتَّحدة لتحيي حفلة غنائيَّة في 18 تشرين الثَّاني الجاري، يعود ريعُها إلى لبنان وأهلِ جَنوبِهِ وبقاعه وضاحيته الجنوبيَّة.

ليست المرة الأولى تتجلَّى إنسانيَّة ماجدة الرُّومي ووطنيتُها، إن في رسالة الفن، وإن في رسالتها في المجتمع. إذ كم خصَّصت من ريوع حفلاتها في لبنان والعالم، من أجل قضيَّة وطنيَّة أو إنسانيَّة، هي التي عبَّرت عن موقفها، عشية سفرها إلى دولة الإمارات بالقول "مع أنَّني ككلِّ لبنانيٍّ تقتلني رؤية بلدي يُذبح كالنعجة، وأهله يموتون بالمئات ويُجرحون بالآلاف وينزحون بعشرات الالآف من قراهم الآمنة وكلِّ الجنوب والبقاع والضَّاحية الجنوبيَّة، وهي تواجه مطامع الاستيطان... سأتأهَّب للدِّفاع عن وطني بِصوتي وتاج لبنان السِّيادة على رأسي وشعبه البطل في قلبي وعَلمه في يدي يلامس قبَّة السَّماء"...

وأتوقَّف عند محطَّتين من محطَّاتها الكثيرة الغنيَّة. حين وقفت على مسرح باريسي، عام 1998، وأدَّت للمرَّة الأولى أغنية "سيِّدي الرئيس"، وجمعت من ريع تلك الحفلة مبلغًا عاد ريعه للمتحف الوطنيِّ اللبنانيِّ ولجمعيَّة مرض التلاسيميا. وحين كتبت وصيَّتها، قبل أن تتوجَّه إلى الجزائر المألومة بصراعاتها الدَّاخلية عام 1997، متحدِّية كلَّ المخاطر، نصرة للشَّعب الجزائريِّ وبلسمةً بصوتها لجراحه ومأساته.

ولا ننسى كيف تجنَّدت بالصَّوت والفعل والموقف، بعد انفجار مرفأ بيروت، في 4 آب 2020، وخصَّت بيروت الجريحة بأغنية "عندما ترجع بيروت"، من شعر نزار قبَّاني ولحن يحيى الحسن.

كان لماجدة الرُّومي في السِّينما إطلالة وحيدة، العام 1976 في فيلم "عودة الابن الضال" للمخرج يوسف شاهين، وقد كرَّسها "حضورًا " لافتًا نالت عليه "جائزة النقاد المصريين".

وإلى أغنيتها الأولى "عم بحلمك يا لبنان"، العام 1975، من شعر سعيد عقل وألحان الياس رحباني، أدَّت مئات الأغنيات لكبار الشُّعراء: عقل، قبَّاني، هنري زغيب، محمود درويش، إيليَّا أبو شديد، مارون كرم، جرمانوس جرمانوس، وكاتب هذه السُّطور... إلخ، ولكبار الملحنين: حليم الرُّومي (الذي أعادت أداء عدد من أغنياته)، الياس رحباني، زياد رحباني، زكي ناصيف، إيلي شويري، نور الملَّاح، ملحم بركات، جوزف خليفة، عبدو منذر، مروان خوري، عبدالرَّبّ إدريس، إحسان المنذر، شربل روحانا، جمال سلامة، جان ماري رياشي، ميشال فاضل... إلخ.

لها اثنتا عشرة أسطوانة آخرها عام 2006 "اعتزلت الغرام" التي نزلت على الناس، كمطر في صحراء، بعد طول انحباس، ومن ثمَّ أسطوانة "غزل" عام 2012... التي بدت كأنَّها تجسيد لالتقاء حبيبين بعد طول غياب، فأشعلت نار الفرح في القلوب بأغنياتها الجميلة العميقة، الزَّاخرة بالصِّدق والوفاء، وفيها تطوَّرت كلَّما أوغلت في الأصالة، وتعرَّف عشَّاق فنِّها أكثر إليها شاعرة تنقل الإحساس صادقًا وعميقًا وتضيف إلى المشاعر الإنسانيَّة أبعادًا وآمادًا. أضف أيضًا أسطوانة دينيَّة عنوانها "نور من نور"، عام 2013، لمناسبة عيدي الميلاد ورأس السَّنة.

لم تقتصر شهرتها على لبنان والعالم العربيِّ بل تعدَّتهما إلى العالم أجمع. وها هي الصَّحافة الفرنسيَّة تجمع على وصف صوتها بـ"الصوت الكريستال". وكتبت "أنَّها حين تغنِّي تجعل اللِّقاء أكثر فرحًا بين النَّغمة والكلمة والحلم ونبضة القلب، وإن صوتها يطوِّع الصَّعب إن لم نقل المستحيل".

وتقديرًا لعطائها الفنِّيِّ والإنسانيِّ الكبير سمَّتها منظمة الأغذية والزِّراعة للأمم المتَّحدة "الفاو" سفيرة لها في 16/10/2001. فنشطت في إطار مهمتها، حيث أمكنها أن تسهم في ردم الهوة بين نصف العالم الغني، ونصفه الفقير، مجنِّدة فنَّها وصوتها لإقامة مشاريع، تساعد 800 مليون إنسان في العالم يعيشون تحت خط الفقر، على العيش بكرامة.

إلى أوسمة قلوب عشاق فنها التي تتقلَّدها كل يوم، كثرت الأوسمة ودروع التكريم والجوائز التي نالتها خلال مسيرتها الزَّاخرة، من لبنان ودول أجنبيَّة وعربيَّة، فهي أكثر من أن تُعدَّ، وآخرها: أوسمة من فرنسا، وإسبانيا، وتونس، فضلًا عن وسام الأرز الوطنيِّ من رتبة كومندور فاجأها به الرَّئيس ميشال سليمان حين قلَّدها إياه في ختام حفلتها المشهودة في مهرجانات جونيه، في السَّنة الأولى لتلك المهرجانات في 25 حزيران 2011، أمام أكثر من خمسة آلاف متفرِّج، شهدوا بحفتلها تلك ولادة لبنان الفرح والأمل.

منحها مجلسُ أمناء الجامعة الأميركيَّة في بيروت الدُّكتوراه الفخرية في العلوم الإنسانيَّة 2009. وتقديرًا لجهودها الفعلية في خدمة لبنان والإنسان والسَّلام العالمي منحتها براءة الشَّرف والعرفان اللُّبنانيِّ العالميِّ الرَّابطة اللُّبنانية في العالم – بيليز 2009. ثمَّ نالت الدُّكتوراه الفخريَّة من الجامعة اللبنانية التي تخرَّجت فيها، في اللُّغة العربية وآدابها، في احتفال مهيب أقيم في حرم الجامعة في الحدت، عام 2018.

ما من مسرح أو مهرجان عالميٍّ أو عربيٍّ إلَّا وتركت عليه وبين روَّاده أثرًا لا ينسى، وذكرى لا تمَّحى. وكم مرَّة عانق صوتها أصوات كبار في الفنِّ العالميِّ، ومنهم مغني الأوبرا خوسيه كاريراس في افتتاح الألعاب الأولمبية الآسيوية في الدوحة، عام 2006، بأداء أغنية مشتركة، وضع كلماتها بالعربيَّة كاتب هذه السُّطور، وكذلك الفنَّان يوسن دور في افتتاح الألعاب الفرنكوفونيَّة في بيروت، عام 2009، وأخيرًا وليس آخرًا أغنية "بكرا" التي لحَّنها الملحِّن والمنتج العالميُّ كوينسي جونز، وكتبتها ماجدة الرُّومي، وأدَّاها عدد من كبار الفنَّانين العرب، رسالة محبَّة وسلام للشُّعوب العربيَّة.

يشعر النخبويُّون أنَّ ماجدة الرُّومي تغنِّي لهم وحدهم لأنَّها تغرف من الشِّعر أرقاه، ومن النغم أكثره حسًّا ورقَّةً وعذوبة. ويشعر العامَّة أنَّها مطربتهم وحدهم، يناديهم صوتها إلى ثورة، إلى فرح، إلى موعد فيتحلَّقون حوله كأنَّه لعبة بين يدي طفل.

ويأسف الماضي أنَّها لم تزره باكرًا، ويهنأ الحاضر أنَّه متوكِّىء على صوتها وحضورها، أمَّا الغد فيعد نفسه بأيَّام جميلة، ليكون في نظر النَّاس أجمل.

ماجدة الرومي خلال الدورة 54 لمهرجان قرطاج الدولي في المسرح الأثري بقرطاج بتاريخ 16 آب 2018 في قرطاج، تونس. (الصورة من ياسين قيدي / وكالة الأناضول عبر وكالة الصحافة الفرنسية).

ولو لم تكن ماجدة الرُّومي موجودة... لوجب أن تكون، ليكتمل صرح الغناء، ومسرح الفرح، وتفرح غابة أرز لبنان أنَّها ضمَّت إليها أرزة من لحم ودم.

إنَّها رسالة لبنان إلى العالم، ورسالة العالم إلى مملكة الفرح والجمال. وتقول ماجدة الرُّومي "لطالما كان الفنُّ رسالة حضاريَّة إنسانيَّة سامية تجمع بين الشُّعوب، وقادرة على الوصول حتَّى من دون لغة ولا كلمات، والغناء من القلب جوهر عنوانه الصدق".

ولو لم تكن ماجدة الرُّومي موجودة... لوجب أن تكون، ليكتمل صرح الغناء، ومسرح الفرح

وعلى الرَّغم من أنَّ "لبنان في خطر شديد، وأرضه تسرق منّا كل يومٍ أكثر"، لكن إيمان ماجدة به وبغده كبير، إذ تقول "إن هذه الشدّة المرعبة إلى زوال، وسنطويها بإرادتنا تمامًا كما طوينا غيرها من المصائب. لأنَّ الله معنا. لا لن يلتفت إلى الخائنين والمجرمين بل سيلتفت إلى كلِّ صلاة طالعة من صميم القلب ولن تذهب دموعنا ومعاناتنا وصمودنا واستبسالنا في الدِّفاع عن أرضنا وسيادة لبنان، سدًى... ولن يذهب دماء الشُّهداء إلى التُّراب دونما رجعة. بل ستزهر سلامًا وأمنًا وحبًّا"، و"لا بدَّ في الأرض من حقٍّ، وما من حقٍّ ولم نبقَ نحن"، كما صدح صوتها بشعر سعيد عقل.

وماجدة الرُّومي، لمن لا يعرف، صوفيَّة الميول. "صلاتي لا تفارقني ثانية، ورأي الربِّ في مسلكي مهمٌّ جدًّا وله الأولويَّة في حياتي"، على ما تقول.

وغدًا حين تقف على خشبة المسرح الإماراتيِّ إنما تتوِّج ثلاثة مهرجانات، على اسم الفرح، لتكتب محبَّة تغط على أغصانها عصافير القلوب، وصرحًا يشهد على العظمة والبطولة، وغابات ورد يفوح في النُّفوس والأرجاء عطرًا وأريجًا.

وستضفي على المكان من تألُّقها وأصالتها وغنى تجربتها الفنِّيَّة الرَّائدة، الكثير، تاركةً فيه بصمة، تبقى محفورة في وجدان الجميع، وفي كلِّ شبر من تلك الأرض، وفي كلِّ نسيم دغدغ ذات يوم حفيف الأشجار.

وهي أيضًا إنَّما تكون المهرجان حيثما حلَّت. ولا غرابة، فها هو تاريخها يشهد لها أنَّها ليست قامة فنِّيَّة عالية وحسب، إنَّما أيضًا زارعة فرح يحصده النَّاس طوال مواسم ومواسم، غلَّة تلو غلَّة، وأنَّها كذلك منارة تهتدي بها سفن النُّفوس الغارقة في لجج الهموم، إلى برِّ أمان، وأنَّها بعدُ، عنوان سلام تحمله إلى أهل الإمارات وتلقيه عليهم حلوًا كإطلالتها، باسمًا كوجهها، عميقًا كثقافتها، حارًّا حرارة شوقها للقاء عشَّاق فنِّها الأصيل.

وماجدة الرُّومي أخيرًا، تقدِّم إلى وطنها لبنان، كلَّ قلبها، غيرَ منتقصةٍ منه نبضة.