"خبريَّات" كانت تلوِّن حياتنا ببسمة، وتضيء درب الأمل بغد أفضل، يومَ كانت "السَّاحرة" اللَّطيفة، على مكنستها الطَّائرة، محور الخبريَّة، وكان كلُّ شيء لطيفًا وجميلًا.

***

قال العجوز المهجوس بالسِّياسة، لأحفاده، وقد تحلَّقوا حوله: ثبُت لديَّ، بما لا يدع مجالًا للشَّكِّ، أنَّ ثَمَّة اختصاصًا يجمع ما بين معظم السياسيِّين اللبنانيِّين، اليوم، بخاصَّة عندما يكونون في الحكم، أو في صفِّ الموالاة.

فهؤلاء السِّياسيُّون، إلى شهاداتهم العليا، أو إلى مواقعهم السِّياسيَّة أو الاجتماعيَّة أو الماليَّة أو العشائريَّة، خضعوا لدروس أو دورات في فنِّ التَّجميل، وبعضهم نال دكتوراه دولة فيه. أي نعم، في فنِّ التجميل، شاءت معاهده المتخصِّصة أم أبت. رضي القيِّمون على تلك المعاهد أم غضبوا...

يجهدون، عافاهم الله، في تجميل الخيار الوطنيِّ. فيمرغونه، من الرَّأس إلى أخمص القدمين، من دون أن ينسوا الوجه طبعًا، بمرهم مستخرج من أعشاب القوميَّة والعروبة والوحدة الكبرى وكذلك وحدة المسار والمصير والتَّاريخ المشترك والجغرافيا المتداخلة ونصرة القضيَّة الأمِّ...

ويبرعون، بما أوتوا من بلاغة وفصاحة (يخال لهم أنَّهم يمتلكون ناصيتيهما)، في تبرير موقف اتَّخذوه، لا يركب على قوس قزح.

ويفلسفون إجراءً إداريًّا بسيطًا، ولو كان تأخير السَّاعة أو تقديمها، على أنَّه نظريَّة رائدة فاتت أفلاطون ومن لفَّ لفَّه.

ويسخِّرون لغة الأرقام لأهوائهم، فصفر الشَّمال يصبح صفرًا إلى اليمين، كأن لا عيون إلَّا عيونهم، ولا من يرون. كأن لا آلة حاسبة اختُرعت... ولا من يحسبون.

وينشطون، ذات اليمين وذات اليسار، في دعوة النَّاس والدُّول والمنظَّمات الأهليَّة والدَّوليَّة، الرسميَّة منها والخاصَّة، إلى عياداتهم، لكنَّ "زبوناتهم" هم إيَّاهم، لم يزيدوا واحدًا، لا بل تراهم ينقصون، يومًا بعد يوم. 

... والنَّتيجة؟ يا جدنا الحبيب... سأله الأحفاد.

أجابهم العجوز: النَّتيجة بشاعة تجرُّ بشاعة، كما يجرُّ المالُ المال، والقملُ السِّيبان. ولا ينفعُ، في هذه الحال، أن يكون القرد في عين أمِّه غزالًا. 

وفي ضوء هذه النتائج "الباهرة"... ليس مطلوبًا سوى قليلٍ من الشَّمع الأحمر يُختم به باب معهد التَّجميل هذا.

 آن الأوان... على ما أظنُّ!   

***

القاضي والعريشة... وجاك مارتان!

شكا جارَه إلى القاضي أن عريشة ذاك الجار تتدلَّى فوق شرفة منزله وتنقِّط ماء عليها. جمعهما القاضي، فاستمع إلى صاحب العريشة، قال: ما حيلتي إذا امتدَّت، علمًا أنَّني أشذِّبها وأقلِّمها، في استمرار، وهي تردُّ عليَّ وعلى عائلتي عنبًا شهيًّا؟ أجابه القاضي: معك حق.

وحان دور المدَّعي، قال: يا سيِّدي، وما ذنب شرفتي لتتَّسخ، ماءً وحبيباتِ عنب، وتمضي امرأتي اليوم بطوله تنظِّفها، وأُحرم أنا وعائلتي وأصدقائي تمضية بعض الوقت عليها، في اطمئنان؟ فردَّ القاضي: وأنت معك حق.

تدخَّل، لحظتذاك، ممثِّل النِّيابة العامَّة، متوجِّهًا إلى القاضي، قال: في هذه الحال، لا يمكن أن يكون الطَّرفان، حضرة الرَّئيس، على حقّ. أجاب القاضي: وأنت أيضًا معك حق.

تذكَّرت وأنا أستمع من الرَّاوي إلى هذه الطرفة جاك مارتان ومدرسة أطفاله، حيث كان الجميع يربح، ويخرج من الحلقة مسرورًا. وما وجدت فرقًا بين موقف القاضي وتصرُّف مارتان، من جهة، وحال دولتنا، من أخرى، حيث كلُّ من فيها على حقٍّ، إلاَّ النَّاس، مهما كثُرت الشَّكاوى وتعاظمت... إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولا. و"ما دام القاضي راضي... قِصّ وعلّيلي الغرَّة".  

***

الشَّمعة... و"البواسير"!!! 

تذكَّرت فلاحًا بسيطًا عندما وصل التيار الكهربائي إلى منزله، في القرية النائية، عانق امرأته وأولاده وبقراته والجيران، من فرط سعادته. وإذ سئل عن سبب اغتباطه المبالغ فيه، أجاب: الآن صار في إمكاني أن أضيء المنزل فأرى الشمعة لأشعلها.

وتذكرت أبي الذي حين علم أن التيار الكهربائي بلغ إلى قريتنا، اصطحب العائلة جميعًا، لتهنئة جدَّيَّ بالإنجاز الجديد، وما إن وطئت قدماه العتبة، وقبل أن يشعل النور، قال ارتجالًا:

يا ضَيْعتي، يا مِيةْ أَهْلا وْمَرْحَبا

فاق الشَّباب وْحَنّ عَ لْيالي الصِّبا

يا ما قشِعْتينا عَلى ضَوّ السّراجْ

واليَوْم راجِعْ إِقْشَعِكْ عَ الكَهْرَبا.

وتذكَّرت أيضًا سياسيًا لبنانيًا، من دون أن أسمِّيه، كان زعيمًا شعبيًا ونائبًا دورات متتالية، واشتهر بالحكمة الفطريَّة وروح الدَّعابة والطَّرافة. دخل المستشفى، مطلع السِّتينات من القرن الماضي، لمعالجة "البواسير". وحين كان الطَّبيب يُعْمِلُ فيها مبضعَه استئصالًا، وعلى رغم الألم الذي تسبِّبه هذه الجراحة، كان السِّياسيُّ يبتسم وأحيانًا يطلق الضَّحكات على عنانها.

وإذ سأله الطَّبيب: ألست تتألمَّ... لتضحك كلَّ هذا الضَّحك؟ أجابه: أتألمَّ جدًّا، لكنَّني أسخر من واقعنا. فها هي الكهرباء تصل إلى قفاي قبل أن تصل إلى ضيعتي... هو النائب عنها، منذ سنين.