أعادت التطوّرات العسكرية والسياسية الأخيرة في سوريا إلى الواجهة الحديث عن عملية إعادة الإعمار التي تفوق كلفتها نحو 400 مليار دولار أميركي، بعدما قضت ثلاثة عشر عامًا من الصراع على هياكل الاقتصاد السوري وبنتيته الاجتماعية. التنافس الجيوسياسي على إعادة إعمار سوريا بين العديد من الدول، يُظهر إلى العلن أنّ هناك عقبات كبيرة لا تزال قائمة أمام عملية إعادة الإعمار، يقف وراءها الأطراف الدوليون الذين سيتقاسمون الشراكة في هذه العملية وبأيّ نسب. إضافة إلى هذه العوامل الخارجية، هناك عوامل داخلية مُرتبطة بالواقع السوري من ناحية شكل النظام السياسي المقبل، وقدرته على السيطرة على الفصائل المُسلّحة التي تلجم شهية المُستثمرين خوفًا من عدم الاستقرار الأمني أثناء عملية إعادة الإعمار، إذ ليس من المنطق إنفاق مئات المليارات من الدولارات في ظلّ عدم وضوح المُستقبل.

وفي ظلّ فرضية أنّه تمّ تخطّي كلّ العقبات، يبقى السؤال: أيّ دور للبنان في إعادة إعمار سوريا؟ هذا السؤال المشروع يأتي من منطلق دور لبنان المُهمّ والمُعقّد في آن واحد في إعادة إعمار سوريا لعدّة اعتبارات، منها جغرافي ومنها تاريخي ومنها الترابط العضوي بين الاقتصادين اللبناني والسوري، والذي أرسته 42 معاهدة بين لبنان وسوريا منذ خمسينيات القرن الماضي (منها أكثر من 25 معاهدة اقتصادية).

التحليل الاقتصادي يُظهر أنّ هناك عدداً من الجوانب التي لا يُمكن فيها عزل لبنان عن عملية إعادة الإعمار:

أولًا – على الصعيد اللوجستي: يلعب لبنان دورًا أساسيًا في أيّة عملية إعادة إعمار من باب نقل البضائع والتجارة بحكم الدمار الذي لحق بالبنية التحتية السورية، ولكن أيضًا من باب عزل القطاع المصرفي السوري عن النظام المالي العالمي. على هذا الصعيد، سيكون لمرفأي بيروت وطرابلس دور جوهري نظرًا للقرب الجغرافي سواء للوسط والجنوب أو للشمال السوري. وهذا الأمر يشمل بالتحديد نقل مواد البناء (إسمنت، حديد، معدّات ثقيلة)، والمساعدات الإنسانية عن طريق مرفأي بيروت وطرابلس مدعومًا بشبكة طرق حيوية تؤدي إلى الداخل السوري تسهّل النقل البري للبضائع. هذه الطرق تمثّل عصبًا أساسيًا لمرور المواد والمعدّات بين البلدين، خاصّة في ظلّ قرب المسافات وانخفاض تكاليف النقل مقارنة بالاستيراد البحري المباشر إلى سوريا.

أضف إلى ذلك، أنّ الوضع الأمني ووضع البنى التحتية سيجعلان من لبنان مركزًا للعديد من الشركات الإقليمية والدولية التي ستعمل في إعادة إعمار سوريا، وهذا يعني أنّ لبنان سيستفيد أقلّه من باب الإنفاق الاستهلاكي لهذه الشركات (اتصالات، مساكن، مكاتب...). مع العلم أنّ للشركات اللبنانية معرفة وطيدة بالسوق السوري وهو ما يجعلها شريكًا للشركات الدولية في عملية إعادة الإعمار هناك. فتقارب الثقافة بين المجتمعين وقرب الجغرافيا سيكونان من نقاط القوّة التي ستلعب لمصلحة لبنان.

ثانيًا – مساهمة القطاع الخاص اللبناني الذي يمتلك خبرة واسعة في مجال البناء والهندسة وقسمًا من المُعدّات اللازمة، وهو ما سيُسهّل عملية إعادة الإعمار. كذلك للمصارف اللبنانية دور جوهري في تحويل الأموال إلى سوريا حيث أنّ النظام المصرفي السوري خضع لعقوبات قاسية على مدى نحو عقد من الزمن، وهو ما يجعل القطاع المصرفي اللبناني البديل الأقرب والأمثل بعد إعادة الهيكلة. وللتذكير فقد تكون عمولات المصارف اللبنانية على تحاويل الأموال نقطة تحوّل بارزة أمام أزمة السيولة التي يتخبّط فيها القطاع المصرفي، وحجر أساس أمام عودة أموال المودعين. ولقطاع الخدمات حصّة مُهمّة في عملية إعادة الإعمار تتمثّل في كلّ القطاعات الداعمة التي تُؤمّن خدمات للشركات التي تعمل في سوريا. وعلى الصعيد الصناعي، يمتلك لبنان العديد من الصناعات التي يمكن أن تُساهم في عملية الإعمار، مثل صناعة الإسمنت، والألمنيوم، والمواد البلاستيكية المستخدمة في البناء. كذلك الأمر بالنسبة إلى الشركات اللبنانية المتخصصة في تصنيع معدات البناء الثقيلة واستيرادها، وهو ما سيسمح بتوفير الأدوات اللازمة للمشاريع الكبرى في سوريا.

ثالثًا – العمالة والمعرفة: من المتوقّع أن تتطلّب إعادة إعمار سوريا أكثر من مليون عامل، وهو ما يُمكن لبنان تأمينه من خلال النازحين السوريين الموجودين على أرضه أو من خلال الشباب اللبنانيين، خصوصًا في الأطراف. ويُمكن لبنان أيضًا تأمين المعرفة اللازمة في العديد من القطاعات (المصرفي والطبّي… ) التي تضمّ نخبة من أهل الكفاية المُتطوّرة والقادرة على المساهمة في إعادة الإعمار.

رابعًا – قد يكون للبنان دور مُهمّ في تأمين التمويل من مصادر دولية وخليجية لإعادة الإعمار. وهذا الأمر نابع من منطلق تغلّغل المُغترب اللبناني في عالم الأعمال في مُعظم دول العالم وله علاقات واسعة ومتينة على الصعيد الفردي والمهني. وبالتالي قد تكون إعادة الإعمار فرصة لتفعيل هذه العلاقات وتأمين التمويل.

أمام لبنان فرصة تاريخية للاستفادة من إعادة إعمار سوريا، وهو الذي عانى نحو عشرة أعوام من نزوح سوري أدّى إلى ضغط اقتصادي واجتماعي هائل

في مقابل هذه الإمكانات، هناك تحدّيات يواجهها لبنان للعب الدور المنوط به، وعلى رأسها:

أولًا – تجاوز لبنان تحدّياته الداخلية، وفي طليعتها إعادة تكوين السلطة التنفيذية وملء الشواغر وإجراء الإصلاحات اللازمة، خصوصًا المالية منها، لاستعادة الثقة الدولية به، وهذا ما سيُعطيه من دون أدنى شكّ صدقية للعب دور وساطة عبر الديناميكيات الجيوسياسية الإقليمية والدولية.

ثانيًا – العقوبات الدولية، وفي مقدمتها قانون قيصر الذي يمنع لبنان حتى الساعة من الانخراط في أيّ عملية لإعادة الإعمار في سوريا.

ثالثًا – النزوح السوري الذي دكّ هياكل البنى التحتية والاقتصاد إذ من المفترض أنّ تؤدي إعادة الإعمار في سوريا إلى عودة قسم كبير جدًا من النازحين. إلّا أن هذا الأمر مرهون، في الدرجة الأولى، بالنظام الجديد في دمشق وتعاونه مع بيروت.

رابعًا – قدرة لبنان على ترسيخ اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل، وهو ما ستُظهره الأيام المُقبلة، لأن لبنان موجود في منتصف فترة الستين يومًا من دون أن يكون هناك سقوط لاتفاق الهدنة هذا.

في الختام، أمام لبنان فرصة تاريخية للاستفادة من إعادة إعمار سوريا، وهو الذي عانى نحو عشرة أعوام من نزوح سوري أدّى إلى ضغط اقتصادي واجتماعي هائل. وبالتالي مع الإمكانات التي يمتلكها من قرب جغرافي وعلاقات ثنائية مع سوريا وامتلاك قطاعه الخاص المعرفة والقدرة، قد يتمكّن من حصد مليارات الدولارات على مدى السنوات العشر المقبلة نتيجة إعادة الإعمار والتطور الاقتصادي اللبناني الذي سيواكب الطلب السوري من دولة إلى دولة.