ماجدة الرُّومي، قامة فنِّيَّة لبنانيَّة، بمقدار ما هي متجذِّرة في أرضها، مثل أرزة، وفي وجدان شعبها، مثل أمل، تظلِّل أمكنة وقلوبًا في العالم أجمع، لشدَّة ما أغصانها وارفة.

كأنَّها ولدت سفيرة للفرح. وهي كذلك، مذ صدح صوتها غناءً، وكانت بعد برعمًا، إلى أن أصبحت رمزًا من رموز ثقافتنا اللُّبنانية والعربيَّة. مطربة تعكس في صوتها وحضورها ومضمون أغانيها واهتماماتها اليوميَّة، صورة وطن وشعب.

وهي تمثِّل، منذ نصف قرنٍ بالتَّمام والكمال، لأجيالٍ سبقتها وجايلتها وستليها، رمزًا وقدوة وعلمًا. أغانيها رفيقة المشاعر جميعًا، ومسارح العالم أجمع تزيَّنت بحضورها.

هي، في اختصار، الصَّوت الإنسان.

مذ أطلَّت على النَّاس، كانت تعرف طريقها ورسالتها، وتبع النَّاس تلك الطَّريق وانتصروا لتلك الرِّسالة.

يذكرها من شاهدها في برنامج "حنكشيَّات منوَّعة" لنجيب حنكش، على تلفزيون لبنان، مطلع السَّبعينات من القرن المنصرم، صغيرةً بريئة تضجُّ عيناها بالأمل والطُّموح والعطاء، وينبض قلبها بإيقاع الحياة والغد، وتأسر نبراتُ صوتها القلوب... والمدى. لم تَهَبْ حنكش، الطَّاغي الحضور، ولا والدها حليم الرُّومي الذي كان إلى جانبها، يرقبها بعينين هما صِنوا الحنان، وبقلب لم تسعه الدُّنيا ليلتذاك. قالت أغنيتها ومشت، وتركت في نفس من سمع سعادةً ملء الآتي من الزمن. غنَّت، ليلتذاك، للرحبانيين عاصي ومنصور ولفيروز الَّتي اختار لها والدها حليم الرُّومي، اسمها الفنِّيَّ، وعرَّفها إلى الأخوين رحباني، فأُعجب عاصي رحباني بصوتها، وتحفَّظ عنه منصور. غنَّت "شايف البحر شو كبير"، وماج بحُر صوتها مذذاك ولمَّا يزل.

مع والدها حليم الرومي

فماجدة الرُّومي ليست مجرَّد مطربة، وليست الأغنية بالنِّسبة إليها نغمة وكلمة فحسب، إنَّها أولًا وأخيرًا رسالة إنسانَّية. لم تأتِ إلى عالم الفن من فراغ، فهي ابنة بيت فنِّيٍّ أسهم في إعلاء شأن الموسيقى العربيَّة والشرقيَّة، نشأت فيه في جوٍّ فنِّيٍّ عالٍ وأخذت عن الفنَّان الكبير حليم الرُّومي التَّشدُّد في المستوى الفنِّيِّ؛ جوٍّ طغى فيه الرُّوح العائليُّ الأسَريُّ على ما عداه، بين ماجدة صغيرة العائلة وشقيقتيها وشقيقها، في بلدة كفرشيما، إحدى ضواحي بيروت.

وقد كشفت الرُّومي، في كلمة ألقتها في دار صحيفة "الأهرام" المصرية، التي كرَّمتها عام 2021، لمناسبة احتفالها بالذِّكرى الخامسة والأربعين بعد المئة، لتأسيسها، ما لم يكن يعرفه إلَّا قلَّة، عن أصول والديها. فقالت إنَّ علاقتها بـ"الأهرام" أقدم وأغرب ممَّا قد يتصوَّر البعض. "فجدُّ أمِّي، المصريَّة الأصول، كان محرِّرًا في "الأهرام" قبل نحو مئة عام، اسمه يوسف حبيب، وكان يعيش يومذاك وأسرتَه، في مسقط رأسه شبرا. ومن غرائب المصادفات أنَّ مؤسِّسي "الأهرام"، سليم وبشارة تقلا، ولدا في البلدة التي أنا منها: كفرشيما المطلَّة على المتوسط، المتَّكئة على كتف جبل لبنان الأشمِّ، كأميرة الحكايات الجميلة".

خاضت ماجدة الرومي غمار الفن، حديثة السِّنِّ، بعدما احتلَّت المرتبة الأولى "في امتياز" في برنامج "ستوديو الفنِّ" في بيروت، العام 1974. ومذذاك، احتلَّت مكانتها في قلوب اللُّبنانيين ومن ثمَّ العرب حيث حلَّت وغنَّت، فملأت السَّاحة الغنائيَّة عن آخرها، ولمَّا تزل متربِّعة على الكرسيِّ الأوَّل، راسمة لنفسها ولمسيرتها صورة واعية واضحة هدفها ثلاثة: تمجيد الله بالصَّوت، واحترام الإنسان وكرامته بنقل الإبداع إليه، ومغذِّية أرض الوطن بالخير والفرح والجمال... ومستندة إلى ثقافة عالية وعلم رفيع.

وإذ يقال إنَّ الصَّوت البشريَّ أعظم آلةٍ موسيقيَّةٍ... نسأل: كيف إذا كان صوت ماجدة الرُّومي؟

هو وليد التقاءٍ واعٍ بين صفاء قلبٍ وزرقة بحرٍ أو سماء، لحظة أطلَّت على الدُّنيا، تذرع صور، مسقطِها، وكفرشيما حيث نشأت، خطًى... للفرح فيها إيقاعٌ، وللحبّ أثر!

هو نشيد مترع بنشوة الإبداع، نردِّده مذ أضاءت شمسٌ، من فضاء الأحلام، سماء الفنِّ في لبنان، وغمرت بنورها مشرقًا ومغربًا. ولمَّا تزل تتوهَّج، أشعَّةً ودفئًا، منذ أغنيتها الأولى! أمصادفةً أن تكون أغنيةً عنوانها الحلم والهديِّة وما كان في البال وما لم يكن؟ أوكانت تمجِّد لبنان أم تقصُّ علينا حكايةً هي بطلتها، من دون أن تدري؟

من لا يصدِّق الحكاية... ليسأل مسارح لبنان ومدنه وقراه. وليقتفِ أثر السِّرِّ في مدن العرب والغرب، حيث المسارح والسَّاحات والعيون والأكفُّ تكنهه، ولا تفشيه إلَّا لتقبض على سرٍّ آخر. وليَجُلْ في خواطر كبار الملحِّنين والشُّعراء ممن تلاقت أنغامهم وكلماتهم وأحلامهم ونبضات قلوبهم، مع صوتٍ نادرٍ يطوِّع الصَّعب - وقل أحيانًا المستحيل - مع نفسٍ تسمو بحبِّ ثلاثةٍ: الله الخالق من عدم، والإنسان الباحث عن المطلق والسَّاعي إلى الكمال، والوطن إن هو إلَّا الحقيقة والمعرفة والحرية!

مع الكاتب حبيب يونس

ومن لم يصدِّق بعد... ها هي أوسمةٌ من أفئدة البشر تزيِّن مسيرتها، وأوسمةٌ وشهادات تقديرٍ ومفاتيح مدن، من أربع جهات الأرض، لا تتَّسع لها جدرانٌ وخزائن.

وفي هذا الإطار، أكبر فيها الشَّاعر سعيد عقل وهو يحتفي بدخوله عامه المئة، في احتفال مهيب أقيم في بكركي، عام 2012، في حضورها، روحَها وصوتها وأداءها وصدقها، وضمَّها بقامته الشَّامخة أرزة إلى صدره، وطبعت هي قبلة على جبينه العالي عربون تقدير.

وقال فيها الشَّاعر العربي الكبير نزار قباني: "أُعجبت بفكرها قبل غنائها، ماجدة تشبهني بأعماقي ثوريًّا. إنَّها واعدة جدًّا، وعندها ذكاء وإحساس بالكلمة. أتصوَّر أنَّ لبنان في حاجة إليها، وموقعها سيكون سفيرة للبنان، لدى كلِّ اللُّبنانيين وكلِّ العرب".

وكتب فيها عازف البيانو العالميُّ اللُّبناني وليد عقل: "أنا فخور بصفة كوني لبنانيًّا ما دامت لبنانيِّتي تستند إلى صوت رائعٍ وصافٍ لا يقاوَم هو صوت ماجدة الرُّومي التي نادرًا ما يلتقي إنسان فنانةً مثلها، توازي الموهبة لديها التَّواضع، والجمال العفويَّة".

وقال فيها الشَّاعر محمود درويش: "أعادتنا ماجدة إلى ساحة عربيَّة، كان الجمهور يمشي معها كأنَّه يمشي في تظاهرة". وليس أقلَّ منه تأثُّرًا بحضورها، يصف حسن بوزريبة مدير مهرجان قرطاج الدَّولي (تونس) لحظة من إحدى حفلاتها هناك، فيقول: "15 ألف متفرِّج يردِّدون جميعًا أغنية لماجدة الرُّومي وهي واقفة. إن ماجدة يمكن أن تقدِّم الوجه الحقيقيَّ والجميل للأغنية الجادَّة والرَّصينة التي نعتزُّ بها".

ماجدة الرومي في "ستوديو الفن" عام 1974

هذا غيض من فيض ما تتمتع به ماجدة الرومي التي تتوجَّه في 16 تشرين الثَّاني إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، بدعوة منها، لإحياء حفلة في دبي يعود ريعها إلى للبنان وأهلِ جَنوبِهِ وبقاعه وضاحيته الجنوبية.

وسيكون لنا عودة إلى تلك الحفلة، وإلى استكمال سيرة الماجدة، على المسارح وفي الأغاني، وفي المواقف، في مقال ثانٍ.