حرب التَّدمير والتَّهجير والقتل، واستهداف الذَّاكرة الشَّعبيَّة والوجدان، وكذلك المعالم الأثريَّة والدينيَّة التاريخيَّة، وضرب جو التَّلاقي اللُّبناني على الثَّقافة والفنون... هذه الحرب التي تشنُّها إسرائيل، لن تستطيعَ محو أيٍّ من مظاهر الأصالة اللُّبنانيَّة، سواء المتمثِّلة بالحجر، أو بالبشر.

ومن الوجوه التي طبعت الحياة الفنية في لبنان والعالم العربي، منذ أكثر من سبعين عامًا، المطربة اللُّبنانية هيام يونس، صاحبة الأغنيات المشهورة التي ردَّدها مئات الآلاف، وضجَّت بها وسائل الإعلام والمسارح، من مثل "تعلَّق قلبي"، و"يا حبيب الدار"، و"سافر يا حبيبي وارجع"، و"دق بواب الناس كلا"، و"يا يمامة"، و"سمراء رقي للعليل الشاكي"...

وهِيّام يونس (1948 - ...)، ليست أيَّما مطربة. هي من رعيل تأسَّست على صوته وحضوره الأغنيَّة اللبنانيَّة، وإن اشتُهرت بأنَّها أدَّت القصيدة وكلَّ أنواع الغناء العربي، ولم تدع فولكلورًا عربيًّا يعتب عليها.

تجمعني بهيَّام يونس صلة قربى وثيقة. هي ابنة خالة أمي، والشقيقتان جنفياف جدتي وغالية والدتها من آل مطر، إحدى أعرق العائلات في تنورين. ولا أدري ما كانت صلة القرابة بين جدِّي وأبيها، يوسف شحادة يونس. وكم كان يحلو لوالديَّ أن يصطحباني والعائلة، إلى فرن الشباك، منزل والد نزهة وهيام، وكان بيتًا مفتوحًا للعائلة وللفنانين، فتدور الأحاديث على الموسيقى والغناء وخصوصًا الشِّعر الذي كانت ولا تزال هيام من عشاقه المتيمين.

سأورد ذكريات لا تزال في البال، وتعني لي الكثير. كنت أتابع مشغوفًا برامج الفن التلفزيونية، وأعجب بقائد الفرقة الموسيقية عبود عبدالعال. كان يبدو على الشاشة طويلًا، بحسب الزاوية التي تلتقطه منها الكاميرا. وصلنا، ذات أمسية، إلى فرن الشبَّاك، وانتظرنا المصعد الذي يشبه مصاعد ما نشاهده في الأفلام المصرية القديمة، فإذا بشخص قصير جدًّا يخرج منه. لم أُعره انتباهًا، أنا ابن الثانية عشرة، لكن أبي سلَّم عليه وصافحه، وتوجه إليَّ بالقول: ألا تريد أن تلقي السَّلام على من تحبُّ وتتابع؟ وحين لفظ اسمه، استغربت قصرَه، وقفزتُ أعانقه. ربَّت على كتفي وانصرف.

أخبرت ما حدث لهيَّام وأهل بيتها، فأشارت، بظرفها وطيبتها المعهودين، إلى قصرها هي، وكأنِّي بها استخدمت لحظتذاك المثل القائل:كلُّ قصير في الأرض فطنة.

كان عرابي وإشبين والدي، ابن ضيعتي، قيصر يونس، ناشطًا في مجال الأفلام السينمائيَّة إنتاجًا وتوزيعًا. هو الذي أخذ بيد صباح إلى مصر حيث آسيا داغر التنورية خالة زوجته، عرَّابتي هند يونس، وشقيقة هند الممثِّلة والمنتجة ماري يونس التي عُرفت فنيًّا باسم ماري كويني... فانطلقت الشَّحرورة إلى عالم الشهرة.

روى لي العمُّ قيصر، رحمه الله، كيف أخذ لاحقًا بيد الشَّقيقتين نزهة وهيام يونس إلى مصر، فشاركتا في فيلم "قلبي على ولدي"، الذي حقَّق نجاحًا باهرًا، وأطلق الفتاتين الصَّغيرتين في رحاب الفن. ومن شاهد الفيلم يذكر كيف أدَّت هيام، وكانت ابنة ست سنوات، أغنية "ريم على القاع" بحرفيَّة عالية.

وكانت والدتي تخبرني أنَّها زارت مرَّة، برفقة شقيقتها، منزل هيام التي دعت ثلَّة من الفنانين والأقرباء إلى غداء على شرف عبدالحليم حافظ. فأُعجبت "أم حبيب" بظرف عبدالحليم، على الرَّغم من ملاحظاتها، هي خبيرة التَّجميل، على وجهه المليء بالبثور. ولم تكن لتتمالك نفسها من الضَّحك، حين روى مجموعة نكات، فوقعت عن كرسيها.


جمعت صداقة شعريَّة، فضلًا عن القربى العائليَّة، والدي الشَّاعر أنطون يونس بهيَّام التي كانت تستند إلى مواويل وأبيات ميجانا وعتابا، من تأليف "أبي حبيب"، لتؤديها على المسرح قبل تأدية أغانيها. وكم من جلسة شهدتها بينهما، وهما يتبادلان الآراء في شأن موَّال أو نصِّ أغنيَّة. وقد سجَّلت أغنيَّة من كلمات والدي "وحياتك يا ساقي الورد"، من تلحين ملحِّن تونسي، نفَّذتها فرقة الإذاعة التونسيَّة، فكانت تحيَّة منها لروحه، بعدما خطفه منا مرض السَّرطان.

تعاونت وإيَّاها، في أكثر من نشاط. فعام 1973، وكنت ألَّفتُ فرقة للرَّقص الشَّعبي، شاركت فيها في برنامج "ستوديو الفن"، وقرَّرت خوض غمار الفن، واكبتها في حفلة أحيتها "هيومة"، كما كانت والدتي تناديها، في شاغور حمانا. فتًى أنا في عمر الرَّابعة عشرة، أدَّيت واثنين من أعضاء فرقتي، رقصة دبكة على أغان لها، ففرحت ونوَّهت بي على الميكروفون أمام الحاضرين.

وعام 2001، وكانت جمعيَّة الشَّاعر الرَّاحل جورج يمين، اختارت هيَّام يونس لتحيي ذكراه في إهدن، فطلبت منِّي أبياتًا تؤدِّيها له، على وزن الشُّروقي. فكان لها ما أرادت.

وعام 2008، كانت هيَّام متوجِّهة إلى الجزائر حيث كُرِّمت، فأهدت أهل بلد المليون شهيد، قصيدة من تأليفي، أدَّتها في احتفال أقيم للمناسبة.

وعام 1984، قابلتها، في حوار طويل، عبر إذاعة "جبل لبنان"، كان أشبه بمذكَّرات لها، أفاضت فيه وألقت قصائد، وأفصحت عن نيَّتها الزَّواج.

وعام 2023، اختارتني من ضمن آخرين، لأحلَّ ضيفًا على حلقة تكريميَّة لها من برنامج "المسرح"، وكان ملخص ما قلته فيها، إنَّ صوتها لا شبيه له بين أهل الفنِّ، وإنَّها صادقة في فنِّها، وإنَّها غنَّت (وسبقت بذلك كثرًا)، كلَّ أنواع الفولكلور العربي، وإنَّ شهرتها التي بلغت أقاصي الأرض، لم تجعلها تتخلَّى، لحظة، عن تواضعها ومحبَّتها للناس وقربها منهم، وإنَّها تحبُّ الشِّعر وتجيده وتتذوَّق أجمله للغناء، وإنَّها أبرع من أدَّى القصيدة المغنَّاة، وإنَّها كانت تلحِّن أحيانًا، لا بل تضيف إلى نصوص أغنياتٍ اشتُهرت بها، كلمات ومقاطع... وإنَّها على الرغم من تقدُّمها في العمر، ما زالت تلك الطِّفلة التي حين وقفت، في سنِّ الرابعة، على مسرح سينما ريفولي، وسط بيروت، عام 1951، أمام أركان الدولة يومذاك، الرَّئيس بشارة الخوري والرَّئيس رياض الصُّلح وآخرين، وأدَّت أغنية "غنِّيلي ثْوَيّ ثْوَيّ"، إذ لم يكن استوى نطقها لتقول "شوي شوي"...

ولعلَّ أكثر اللِّقاءات رمزيَّة لهيَّام ولي، عام 2004، حين كرَّمتها تنُّورين، مسقطها، وطلبت منِّي أن ألقي كلمة في بداية التَّكريم... فسمَّيتها راهبةَ الفن، وكانت كلمة ختمتها، بهذه الشّروقية التي أظنُّ أنَّها تختصرها:

هِيّام صَوْتِكْ حِلو، يا فَرْحِة الْأَنْغامْ

وِبْطَلّتِكْ ما شِفِتْ إِلّا لَحِنْ شادي

طِلّي عْلَيْنا فَرَحْ تَ تِفْرَح الْإِيّامْ

وِتْكون سَهْرِةْ عِمِرْ لِلْعِمْر زِوّادي.

***

وْعينا عَ صَوْتِكْ حِلِمْ عَمْ تِحْسدو الْأَحْلامْ

كان الْوَطَنْ بِالْمَجْد مِلْيان وِزْيادي

رجِعْتي ومِتْلِكْ بلادي راجعا هِيّامْ

عَ الْمَجْد تِغْفا وتِصْحا صورِة بْلادي.