لا تتحدّد قدرة لبنان على مواجهة الحرب وانعكاساتها بمقدار ما يملك من أموال، بل بمقدار ما يستطيع الإنفاق. ولعلّ هذه المعادلة التي كرّسها الانهيار النقدي منذ العام 2019، هي أخطر ما تواجهه الدولة على المستوى المالي. فـ"شقّ الباب الحديدي" للخزنة المركزية، ولو مواربة، سيفتح أبواب جهنم على الاقتصاد المريض والمنهك. إذ بدلاً من أن تكحّل فوائض الليرات المجموعة من جيوب المواطنين آلام المفجوعين، ستُعميهم مع بقية اللبنانيين بالتضخّم غير المقيّد بأيّ سقف.

بين أيلول 2023 وأيلول 2024، ارتفعت الودائع في الحساب 36، حساب الدولة لدى مصرف لبنان، من نحو 149 ألف مليار ليرة، إلى قرابة 535 ألف مليار. وقد أثار هذا المبلغ "الأبيض المُخبّأ"، أسئلة الكثيرين عن جدواه إن لم يستعمل في "اليوم الأسود"، لتمويل خطّة الطوارئ ومساعدة النازحين والتعويض عن المتضررين. وقد ذهب البعض أبعد من ذلك في انتقاد الحكومة التي تلفّ العالم لاستعطاء مبلغ 430 مليون دولار لمدة ثلاثة اشهر من أجل تلبية الحاجات الضرورية، فيما لا يشكّل هذا المبلغ أكثر من 10 في المئة ممّا لديها من احتياطيات! فهل "الشحادة" هواية؟

الجزء الأكبر من الإيرادات بالليرة

بالأرقام، يتبيّن أنّ حوالى 3.6 في المئة من مجمل إيرادات الدولة العامة إلى أيلول 2023 كانت بالدولار النقدي، فيما 96.4 في المئة هي بالليرة اللبنانية. فمن أصل مجمل الإيرادات المقدّرة بـ 149 ألف مليار ليرة (9.9 مليار دولار على سعر الصرف الرسمي 15 ألف ليرة في أيلول 2023)، بلغت حصة الدولار 351 مليوناً. إلّا أنّه يجب الأخذ في الاعتبار أنّ سعر الصرف في ذلك الوقت لم يكن حقيقياً.

أمّا بالنسبة إلى الإيرادات المحقّقة إلى أيلول 2024، والمقدّرة بـ 535 ألف مليار ليرة، (تعادل 5 مليارات و977 مليون دولار على سعر صرف 89500 ليرة ) فهي مقسّمة على الشكل التالي:

- 591 مليون دولار بالنقد الاجنبي. ويتكوّن هذا الرقم من مبلغ 351 مليون دولار الذي كان في حوزة الدولة + 20 مليون دولار إيرادات شهرية بالعملة الصعبة مضروبة بـ 12 شهراً.

- 5.3 مليار دولار بالليرة.

وممّا يمكن استنتاجه أنّ نسبة الدولار لا تتجاز 20 في المئة من مجمل الإيرادات العامّة. وتحتاج الدولة إلى هذا المبلغ لتسديد فوائد قروض دولية، ولا سيما للبنك الدولي وبعض الجهات الداعمة والمؤسسات الدولية، ولتأمين الحاجات الضرورية من أدوية مدعومة للأمراض المستعصية ومواد أساسية وغيرها. في المقابل، فإنّ التوسع في الإنفاق بالليرة سيرفع مجدداً الكتلة النقدية M1، ويقوّض الجهود التي بذلت للمحافظة على استقرار سعر الصرف طوال الفترة الماضية. ومن شأن عودة انهيار سعر الصرف وتبدّله بشكل يومي أن يقوّض القدرة الشرائية للمداخيل، ويحدّ من قدرة المركزي على استمرار شراء الدولار لتسديد الرواتب بالعملة الصعبة (تقدّر بـ 100 مليون دولار شهرياً) وارتفاع التضخم. والأهمّ أنّ هذا التوسع في الإنفاق سيفشل محاولات ليلرة الودائع التي تنوي الحكومة اعتمادها في أيّ خطّة مستقبلية لإرجاع حقوق المودعين. لأنّ السوق ستصبح متخمة بالليرات، ولن يعود هناك إمكان لضخّ المزيد من العملة الوطنية ولو على دفعات ممتدة على مدى سنوات.

أصول المركزي ترتفع

في المقابل، ارتفعت الأصول الأجنبية لمصرف لبنان من 13.9 مليار دولار حتى أيلول 2023، إلى 15.8 مليار دولار في أيلول 2024. وتشكّل هذه الزيادة بقيمة ملياري دولار مبلغاً وازناً، إلّا أنّه يبقى قليلاً للتدخل وتثبيت سعر الصرف فيما لو حدث أيّ انفلاش في الكتلة النقدية بالليرة. ولعلّ وصول حجم التداول على "صيرفة"، وهي المنصّة التي أُنشئت في أيار 2021 لامتصاص الليرات من السوق، إلى اكثر من 24 مليار دولار في غضون أقلّ من عامين، خير دليل على عدم إمكان مجابهة التحديات النقدية الكبيرة في المجمّع من احتياطيات عملة أجنبية. هذا من دون أن ننسى أنّ مصرف لبنان يسدّد إلى المودعين من احتياطياته نصف ما يدفع بموجب التعميمين 158 و166.

أدّت زيادة الرواتب للقطاع العام في نيسان 2023 إلى ارتفاع تداول العملة

الكتلة النقدية بالليرة مستقرة

في هذا الإطار، استقرّت الكتلة النقدية بالليرة M1 التي تمثّل السيولة بالليرة+الودائع بالليرة تحت الطلب عند مستويات 93.8 ألف مليار ليرة، منها 60.4 ألف مليار نقداً في التداول. والرقم الأخير يشكّل المقياس الحقيقي لتحديد الضغط على سعر الصرف. فكلّما ارتفع النقد في التداول سواء كان هذا الارتفاع ناجماً عن طبع الليرات لتمويل الإنفاق العام، كما كان يحصل سابقاً، أو بسبب التوسع في الانفاق العام كما هو متوقّع في المرحلة المقبلة، زاد الطلب على الدولار بشكل مباشر وغير مباشر. ونتيجة لمحدودية المعروض من النقد الأجنبي يرتفع سعره مقابل الليرة وينهار سعر الصرف.

ما يمكن استنتاجه من خلال ما تقدّم ثلاثة أمور أساسية:

- الارتفاع الكبير في الإيردات العامة بين أيلول 2023 وأيلول 2024 نتج بشكل أساسي من تعديل سعر الصرف، واستيفاء الضرائب غير المباشرة على سعر صرف السوق.

- أيّ إنفاق بالليرة سيؤدي إلى زيادة الطلب على الدولار. وبالتالي، تقويض سياسة تثبيت سعر الصرف للحدّ من انهيار القدرة الشرائية واستنزاف احتياطيات المركزي.

أدّت زيادة الرواتب للقطاع العام في نيسان 2023 إلى ارتفاع تداول العملة إذ كان مصرف لبنان يشتري الدولار من السوق الموازية لدفع أجور القطاع العام بالعملة الأجنبية. وازدادت الودائع تحت الطلب بالليرة منذ آب 2023 بسبب استقرار سعر صرف الليرة مقابل الدولار.

- الزيادة في الإيرادات العامة تبقى قليلة مهما زادت لأنّها مكوّنة بشكل أساسي من الليرة.

- ارتفاع الإيرادات من الضرائب غير المباشرة يقوّض الإصلاحات المالية المطلوبة على المستوى الضريبي.

- إطالة فترة الحرب وتراجع المساعدات والتقديمات الخارجية، النقدية منها تحديداً، سيستنزفان الإيرادات العامّة واحتياطيات المركزي على السواء.

- تشبه الإيرادات العامّة إلى حدّ ما "مال الوقف". ففي حين يشير هذا المصطلح من الناحية الدينية إلى "حبس المنفعة من أحد الأصول التي يمكن الانتفاع بها بدون بيعها، وتقييدها لوجه الله تعالى في أحد وجوه الخير بنيّة أخذ الأجر والثواب". يعني من الناحية النقدية اللبنانية استمرار حبس الإيرادات المجبية من الضرائب، وعدم جواز إنفاقها بنيّة امتصاص الليرات من السوق وعدم التسبّب في التضخم.