تمرّ الأيام والأسابيع ويتبيّن أن ل"الحرب الشاملة" (والمقصود بها الحرب الإقليمية الواسعة) حسابات حذرة ودقيقة وموانع أميركية واعتبارات مصلحية لدى طرفَيها إيران وإسرائيل، بدليل أن تل أبيب تستنسخ طهران في التأنّي بالرد واختيار أهدافه بين ثلاثة: المؤسسات النفطية والمواقع النووية والترسانات العسكرية. وربما كان الهدف أقل طموحاً وأهمّية من الثلاثة معاً.
وتحت ضغط التهديد المتبادل بالردّ والرد المضاد، تستبيح إسرائيل كل المناطق اللبنانية التي ترى أن فيها أثراً ما ل"حزب الله".
وهذه الحرب الشعواء، المُبصرة والضريرة في آن، لا تترك مجالاً للمساعي الدبلوماسية الدولية التي تكاد تغيب، خلافاً لما كان يحصل في حرب غزة، إمّا بسبب انهماك هذه الدول بشؤونها الخاصة، وإمّا لإدراكها ضرورة استكمال الصراع قبل إطلاق مسار الحلول.
هناك في غزة تجنّدت الدبلوماسية الأميركية والأوروبية والأممية والعربية، وبمشاركة روسيا والصين وسواهما، لطرح التسويات، فنجح بعضها وخاب بعضها الآخر.
أمّا هنا في لبنان فيكشف الصمت الدولي، بل الكسل الدبلوماسي، حقيقة صاخبة حول ترك "الكلمة للميدان"، وللمخطط الإسرائيلي بما هو أبعد من جنوب الليطاني وأمن المستوطنات الشمالية، وصولاً إلى تغيير التوازنات وإنهاء عصر المليشيات.
ولا يبدو أن هذا المشروع إسرائيلي حصراً، بل يحصل على غطاء دولي وإقليمي واسع، وليس من المستبعد أن تكون إيران تدرك أبعاده وتسلّم بأهدافه تحت مقولة "مكره أخوك لا بطل"، وتسعى إلى تحصيل مكتسبات على مستوى أموالها المحجوزة بفعل العقوبات، وفي المجال النووي إذا سمحت مفاوضاتها مع واشنطن بذلك. لكنّ نفوذها في المنطقة العربية مرشّح للانقباض تبعاً لتجاوز مرحلة القوى المسلّحة غير الدولتية، في اليمن والعراق وسوريا ولبنان.
وقد فسّر المراقبون التشدّد الذي أعلنه وزير الخارجية الإيراني عبّاس عرقتجي في بيروت قبل بضعة أيام لجهة تشجيع "الحزب" على الاستمرار في المواجهة ورفض فصل المسار عن غزة، من باب رفع أسعار المفاوضات والمساومات الدائرة على قدم وساق.
واستدلّوا على مفاعيل هذا التشدد من فرملة الليونة التي أبداها الرئيس نبيه بري حول وقف إطلاق النار في لبنان بفصله عن غزة، وفي مسألة الاستحقاق الرئاسي بالتخلّي عن شرط طاولة الحوار المسبق، والتراجع عن أحادية ترشيح سليمان فرنجية، ما استدعى استدارة بري إلى موقعه السابق، والشيخ نعيم قاسم إلى اعتبار انتخاب الرئيس أمراً تفصيلياً ليس أوانه الآن قبل وقف النار، وما جعل وليد جنبلاط ينتقد تدخّل الوزير الإيراني و"نصائحه"، ويطالب ومعه المجلس المذهبي الدرزي الجامع بتنفيذ القرار ١٧٠١ و"كل القرارات الدولية الأخرى" (والمقصود طبعاً القراران ١٥٥٩ و ١٦٨٠ وما سبقهما) مع فك الارتباط بغزة، إضافةً إلى التزام موجبات اتفاق الهدنة سنة ١٩٤٩.
وكان من شأن هذا التشدد الإيراني تصعيد الحرب في لبنان برّاً وجوّاً وبحراً، كساحة مفتوحة ومستَفرَدة لا تلقى سوى إسناد ضئيل يكاد يكون رمزياً من أطراف "محور الممانعة والمقاومة"، بما فيها إيران نفسها.
ولعلّ هذا الاستفراد هو ما جعل الشيخ قاسم يتحدّث عن أولوية وقف إطلاق النار بدون أي ذكر للربط مع غزة، فمَن يقبض على الجمر ليس كمن يضع يده في الماء، ولم يعُد مستبعَداً التمايز، التكتيكي على الأقل، بين طهران و"الحزب"، رغم الهجمة الصاروخية الإيرانية على إسرائيل والتي كانت تهدف إلى احتواء نقمة جمهوره وغضب النازحين وذوي الشهداء والضحايا، قبل أي أمر آخر.
في المحصّلة، ومع البرودة العالمية تجاه التطورات اللبنانية خلافاً لغزة، ستجري مياه كثيرة ونار غزيرة تحت جسور لبنان والمنطقة قبل بلوغ التغييرات المرتقبة في الموازين والخرائط السياسية، وتكون الأثمان الأشد وطأة على عاتق الصغار الذين يتورّطون في لعبة الكبار، مع التوقّع بأن تكون آخر الحروب بدمويّتها وشراستها، مع الترتيبات البنيوية والحلول المحورية التي ستُسفر عنها.
وعلى المستوى اللبناني تتحرّك التطورات نحو اقتناع ثابت بأن المستقبل هو للدولة، وبأن أي قوة خارجة على سيادة قراراتها تبقى مرحلية آيلة إلى الانقضاء، ولا حماية فعلية لأي مكوّن لبناني، مهما استقوى وتعملق، إلّا المظلّة الشرعية، بعد تهافت الحمايات الخارجية وانكشاف خوائها.