جهد حاكم المصرف المركزي بالإنابة وسيم منصوري في المحافظة على الاستقرار النقدي القائم من خلال ضخّ منتظم للدولارات في السوق، والسعي إلى تدارك انعكاسات إدراج لبنان على اللائحة الرمادية، خصوصًا في ما يخصّ العلاقة مع المصارف المراسلة. هذا الجهد يستحقّ التنويه مع انسداد الأفق السياسي، والحرب القائمة حاليًا، ومع فقدان المصرف المركزي أدوات السياسة النقدية التي تمرّ عبر القطاع المصرفي الذي يواجه أزمة وجودية.

إلّا أنّه يتعيّن معرفة أنّ ما يقوم به المصرف المركزي من خطوات سواء من خلال التعاميم أو الاتصالات مع الخارج، أو من خلال ضخّ الدولارات في السوق، لا يُمكنه أن يُعوّض العمل الحكومي (أي السياسة المالية) الذي من المفترض ترجمته خطّةً للخروج من الأزمة السياسية والاقتصادية، والأهمّ وقف الحرب القائمة.

العملة تعكس ثروة البلد، وبالتالي كلّما زادت ثروة البلد ارتفعت قيمة عملته والعكس صحيح أيضًا. وعندما نتكلّم عن ثروة البلد، نقصد بذلك اقتصاده، وماليته العامّة، والثروات الطبيعية (نفط، غاز، معادن...). وبما أنّنا نعيش في عصر الاقتصادات المفتوحة (open economy)، فإنّ سعر الصرف الذي يُحدّد قيمة العملة بالنسبة إلى عملات دول أخرى يأخذ حيزًا مُهمًا، خصوصًا في عمليات الاستيراد والتصدير، لأنّ الاستيراد يُقلّل من عرض العملة الصعبة (الدولار في الدرجة الأولى) والتصدير يزيد من هذا العرض.

مُهمّة الحكومة على هذا الصعيد تنصّ عليها أدبيات علم الاقتصاد، وخصوصًا العالم الاقتصادي بول كروجمان الذي حدّد ثلاث مهمّات اقتصادية أساسية لكلّ حكومة:

أولًا – تحقيق التوازن الداخلي: وذلك من خلال تحقيق استقرار الأسعار والتوظيف الكامل، وهذا يتطلّب سياسات اقتصادية على المديين المتوسط والبعيد.

ثانيًا – تحقيق التوازن الخارجي: وذلك من خلال تحقيق توازن في الحساب الجاري (قريب من الصفر، أي ليس إيجابيًا كثيرًا ولا سلبيًا كثيرًا). وهو ما يفرض سياسة اقتصادية واضحة من حيث الصادرات والواردات.

ثالثًا – إيجاد سعر صرف للعملة الوطنية يناسب المُهمّتين المذكورتين آنفًا.

إذاً، سعر صرف العملة هو نتاج الماكينة الاقتصادية في الدرجة الأولى. وهذا الأمر يُشكّل الانتقاد الأساسي لسياسات تثبيت سعر الصرف، التي تؤدّي عادةً إلى عجز في ميزان المدفوعات، خصوصًا إذا لم تكن هناك تدابير حكومية تقوم بها السلطات للتخفيف من عجز الميزان التجاري، وهو حال لبنان طوال قرابة ثلاثة عقود من تثبيت سعر الصرف بأدوات نقدية ومصرفية بحتة وبغياب ماكينة اقتصادية مُنتجة (بالمعنى الأولي والثانوي للاقتصاد) وتفشّي اقتصاد الخدمات المعروف عنه أنه يتأثر كثيرًا بالعوامل السياسية.

الاستقرار، اليوم، في سعر الصرف هو نتاج دولرة الاقتصاد وامتصاص الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية من الأسواق بآلية أقلّ ما يُقال عنها إنّها غريبة عجيبة تمزج السياستين المالية والنقدية وتحرم الأخيرة من استقلاليتها عن السلطة السياسية.

وما دام هناك قدرة لمصرف لبنان على ضخّ الدولار في الأسواق من خلال تحويل الليرات التي تجمعها الحكومة بواسطة الضرائب والرسوم والفواتير إلى دولارات أميركية، وما دام الاقتصاد مُدولرًا، والكتلة النقدية بالدولار الموجودة في لبنان مُتوافرة على نحو تُغطّي فيه حاجات القطاعين الخاص والعام (الحاجة الشهرية تفوق المليار دولار)، فإنّ سعر صرف الليرة مُقابل الدولار سيبقى على حاله ولن يكون في دائرة الخطر، وإنْ استعرت المعارك العسكرية.

ولكنْ في ظل فرضية ضرب مصادر الكتلة النقدية بالدولار في السوق، وفرضية وضع لبنان على اللائحة الرمادية، سيحصل نقص في الدولار في السوق على نحو لا يكفي لتغطية الاستيراد والإنفاق المحلّي، وسينتج من ذلك عجز للمصرف المركزي عن تأمين الدولارات من السوق، وهذا يعني أنّ الحكومة ستُعاود دفع أجور القطاع العام بالليرة وسيزداد الطلب على الدولار في السوق زيادةً يرتفع معها سعر صرف الليرة مُقابل الدولار.

في هذه الحالة – أي عجز المصرف المركزي عن تأمين الدولارات للحكومة من الأسواق – سيواجه المركزي عدّة احتمالات (Combination of these possibilities)، أبرزها:

الأول – استخدام الاحتياطي من العملات الصعبة الموجودة لدى المصرف المركزي، بما في ذلك الاحتياطي الإلزامي بعد حصول التصويت على قانون في المجلس النيابي ينصّ على ذلك، عملًا بشرط حاكم المركزي بالإنابة الذي يرفض أي تمويل للدولة إلّا بموجب قانون يصدر عن المجلس النيابي.

الثاني – تجفيف السوق من الليرة اللبنانية أكثر فأكثر من خلال رفع سعر الصرف (مصرف لبنان) أو زيادة الضرائب والرسوم والفواتير (الحكومة والمجلس النيابي) وهو ما سيؤدّي إلى عملية انكماش كبيرة في الاقتصاد تتسبب في زيادة مُعدّلات الفقر.

الثالث – الانسحاب من السوق وترك الليرة والقيود الاقتصادية والمالية تتوازن، وهو ما سيؤدّي إلى ارتفاع جنوني في أسعار الصرف في السوق السوداء، خصوصًا أنّ هناك مضاربين جاهزين للقيام بما يلزم، وكلّ أدواتهم متوافرة، بما في ذلك التطبيقات التي قضت على الليرة في المرحلة السابقة (من آب 2019 إلى أذار 2023).

هل يكون للبعد السياسي دور في المُحافظة على الستقرار النقدي؟ لا أحد يعلم خصوصًا أنّ هناك توجّهًا دوليًا يدفع نحو بناء دولة قوية خالية من الفساد، وحكومة قادرة على القيام بإصلاحات وإعادة تفعيل مبدأ المُساءلة والمحاسبة المنصوص عليه في القوانين اللبنانية. إلّا أنّ هذا التوجّه الدولي لن يُترجم فعليًا إلّا مع وقف إطلاق النار وانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة. فهل يُعطي المُجتمع الدولي الضوء الأخضر لاستمرار الاستقرار النقدي إلى حين بدء ترجمة الإرادة الدولية على الأراضي اللبنانية؟ وحده الوقت كفيل بالإجابة عن هذا السؤال.