يكرّر المرشّح الجمهوري للرئاسة الأميركية الرئيس السابق دونالد ترامب القول إنه لو كان رئيساً لما هاجمت روسيا أوكرانيا ولما هاجمت حركة حماس إسرائيل ولما فتح حزب الله في لبنان جبهة إسناد لغزّة مهاجما شمال إسرائيل. وهو يكرّر أيضاً أنه إذا انتُخِب رئيساً، فسينهي الحرب في أوكرانيا وينهي التهديد الإيراني ويضع حدّا لوتيرة التطوّر الصيني الذي يمكّن الصين من أن تكون ندّا للولايات المتحدة، ويلجم طموح كوريا الشمالية النووي.
لكنْ ما لم يشرحه ترامب هو كيف سيفعل كلّ ذلك.
يذكّر هذا بما أعلنه المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية عام 1952 الجنرال دوايت آيزنهاور في حملته الانتخابية، وهو أنه إذا فاز في الانتخابات فسيذهب إلى كوريا. في ذلك الوقت كانت الحرب الكوريّة مستعرة وأدّت لاحقاً إلى تقسيم كوريا إلى دولة جنوبية متحالفة مع الولايات المتحدة، وإلى دولة شمالية يساندها الحزبان الشيوعيان السوفياتي والصيني. طبعاَ، لم يقل آيزنهاور للأميركيين ما الوقت الذي سيمضيه في كوريا وما الذي سيفعله هناك. لكنّ الناخبين الأميركيين لم يسألوه هذه الأسئلة "المحرجة" لأن ثقتهم به كانت كبيرة وتفوق ثقتهم بمنافسه الديمقراطي أدلاي ستيفتسون، لأنه قاد قوات الحلفاء إلى نصر ساحق في الحرب العالمية الثانية في أوروبا.
السياسة الخارجية الأميركية تحتاج إلى إعادة تأطير وتحديد على أساس تجديد قدرة الولايات المتحدة على حماية نفسها وقدرتها على استعادة الردع
هكذا يبدو أن للسياسة الخارجية للولايات المتحدة دورا فاعلاً في انتخابات الرئاسة على خلاف الشعار الذي انتشر مع حملة بيل كلينتون في 1992 "إنه الاقتصاد يا غبي It’s the economy stupid" الذي أطلقه المستشار الاستراتيجي لحملة كلينتون جيمس كارفيل والذي أصبح لازمة لكل حملة انتخابات رئاسية، بمعنى أن السياسة الداخلية هي أهمّ من اعتبارات السياسة الخارجية في انتخابات الرئاسة.
لكن الاهتمام بالسياسة الخارجية نما في هذه الأيام لأنها مظلة للأمن القومي. فكما يبني الناخبون قرارهم على من يعتقدون أنه يحمل مشروعا اقتصاديا يريحهم في حياتهم اليومية وفي تقاعدهم، يرون الآن أن التحولات الجيوسياسية تدفعهم إلى تفحّص خطوط السياسة الخارجية للمرشحين لأنها مرتبطة بموقع الولايات المتحدة ونفوذها في العالم.
ورغم الصورة النمطية للناخب الأميركي العادي، وهي أنه لا يهتمّ بأبعد من رزقه اليومي والمساعدات التي يمكن أن يتلقاها من السلطات المحلية والفدرالية، وأنه جاهل بشؤون العالم، فإن هذا الناخب أصبح اليوم يكترث لما يجري في العالم خصوصا بعد تركيز المرشحَين للرئاسة في حملتيهما على ملفات معيّنة في السياسة الخارجية واستخدام لغة القوة في التعامل مع الدول. هكذا يصبح ملف الصين بارزا لأن المرشحَين يصفانها بأنها في طريقها لتشكّل تهديدا لأميركا. ويصبح ملفّ روسيا مهمّا بالنظر إلى ما يُحكى عن "أطماع بوتن." وهكذا أيضا يصبح ملف إسرائيل جوهرياً لأن المرشحَين يبديان دعما غير محدود لها رغم تمرّدها على اليد التي تطعمها.
وعليه، يوجد اليوم اقتناع بأنّ السياسة الخارجية الأميركية تحتاج إلى إعادة تأطير وتحديد على أساس تجديد قدرة الولايات المتحدة على حماية نفسها وقدرتها على استعادة الردع. تلك الحاجة بدأت تبرز حين رسم الرئيس أوباما خطا أحمر للرئيس السوري عام 2013 بعدم استخدام السلاح الكيماوي تحت طائلة الرد ولم يردّ، وتجلّت في تخفيضه عديد القوات المسلحة، ثم في تعامل ترامب مع القيادات العسكرية، ثم في تنفيذ الرئيس بايدن سحب القوات الأميركية من أفغانستان وتعرضها لهجمات انتحاريين من ولاية خراسان في تنظيم الدولة الاسلامية وسقوط أفغانستان مجددا في قبضة طالبان.
والمبدأ الأساس الذي يتحدث الأميركيون وفقه اليوم، سواء فاز ترامب أو فازت كملا هاريس هو بناء قدرة القوات الأميركية على القتال في أكثر من جبهة، خصوصا بعد تنامي التعاون بين روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية. يضاف إلى ذلك تمدّد الصين نحو دول أميركا اللاتينية، التي تعتبرها الولايات المتحدة ضمن نطاقها الحيوي. وتنظر واشنطن بحذر شديد إلى تعاون روسيا وكوريا الشمالية في مجال عسكرة الفضاء، وإلى تمدّد نفوذ إيران في الشرق الأوسط عبر "أذرعها" في لبنان واليمن والعراق، وامتدادا إلى سوريا.
قبل عامين، انتهى تقرير أعدته لجنة نيابية مشتركة من الحزبين إلى أن الصين في طريقها لأن تصبح ندّا للولايات المتحدة، مشيرا إلى سيطرة الصين على قطاع المعادن النادرة في العالم وزيادة استثماراتها الدولية في قطاعات متعددة.
وأوصى التقرير باعتماد استراتيجية تحقق الهدفين، أي القدرة على حماية النفس واستعادة الردع. وبدأت وزارة الدفاع تعمل على بلورة ما سمّته "استراتيجية التفوّق" التي تقوم على إعادة تعزيز عديد القوات المسلحة، والتركيز على إعادة الاستثمارات الصناعية الأميركية من الصين إلى الداخل الأميركي بعد الانقطاع الذي تعرّضت له خطوط الإمداد إبّان أزمة الكورونا، وتعزيز الصناعات العسكرية. في هذا الإطار يشدد الأميركيون على الطابع التنافسي الذي يجب أن تتميّز به الصناعة العائدة من الخارج.
وتقوم هذه الاستراتيجية أيضا على السيطرة والتحكم بمصادر الطاقة. وفي هذا لا يختلف المرشحّان على زيادة انتاج الطاقة الأميركية سواء الأحفورية (رغم ضررها البيئي الكبير) أو الطاقة المتجددة والسعي إلى أن تحلّ الولايات المتحدة محلّ الصين كمصدر للطاقة البديلة. يضاف إلى ذلك توسيع حصة أميركا في استخراج واستخدام المعادن النادرة وهي عنصر مهمّ في صناعة الأسلحة المتطوّرة، ولا سيّما أنظمة التوجيه.