كارين عبد النور
العيش في عالم من التناقضات ليس طارئاً على حياة اللبنانيين اليومية. فمن يشاهد طوابير الذلّ أمام محطات الوقود والأفران والصيدليات صباحاً، يلفته ازدحام المطاعم والفنادق وأماكن السهر ليلاً.
استعراض سريع لبعض الأرقام يوضح المشهدين. فحيث أن 23% من أطفال لبنان ينامون متضوّرين جوعاً، بحسب اليونيسيف، تبلغ ثروات 10% من سكانه ما يقارب 90 مليار دولار، بحسب منظمة الإسكوا.
وفيما تسدّد 70% من أسر لبنان كلفة طعامها من خلال مراكمة الفواتير أو عبر الاقتراض، بحسب اليونيسيف أيضاً، تستحوذ نسبة 1% من اللبنانيين على 48.2% من ثروة شعبه، بحسب تقرير World Inequality.
أما تخفيض 38% من العائلات اللبنانية لنفقات التعليم وتقليص 60% منها للإنفاق على العلاج الصحي (والأرقام لليونيسيف دوماً)، فيقابله استيراد عطور بقيمة 16 مليون دولار في العام 2022.
أوكسيجين التحويلات
[caption id="attachment_1661" align="aligncenter" width="300"] شمس الدين: التحويلات بالعملات الأجنبية من الخارج تزيد القدرة على الإنفاق[/caption]الباحث في الدولية للمعلومات، محمد شمس الدين، يشير في حديث لـ"الصفا نيوز" إلى التغييرات التي انعكست على تركيبة شرائح الشعب اللبناني نتيجة الأزمة الاقتصادية. فقبل سنوات، كانت نسبة الأغنياء 5%، والطبقة المتوسطة 70% والطبقة الفقيرة 25% - والأخيرة تُقسَّم إلى فئتين: 15% فوق خط الفقر و10% دونه (أي حيث الدخل لا يكفي لتأمين الغذاء الصحي السليم). اليوم، ورغم أن 5% من اللبنانيين ما زالوا يُصنَّفون أغنياءً، إلا أن الطبقة المتوسطة انحسرت من 70% إلى 40% لينضمّ 30% منها إلى الطبقة الفقيرة التي أصبحت تمثّل 55% من الشعب (30% منها فوق خط الفقر و25% دونه).
ويقول شمس الدين إن 20% من اللبنانيين تصلهم تحويلات بالعملات الأجنبية من الخارج ما يزيد من قدرة الإنفاق على أنواعه. "ما يدلّل على القدرة الكبيرة على الإنفاق هو ارتفاع حجم الاستيراد إلى 17 مليار و800 مليون دولار حتى نهاية تشرين الثاني 2022 مقارنة بـ12 مليار و200 مليون دولار خلال الفترة نفسها من العام 2021".
وهذه التحويلات هي ما يميّز الأزمة اللبنانية عن أزمات الأرجنتين واليونان وفنزويلا، مثلاً. فهي بمثابة "الأوكسيجين" لمتلقّيها، وهو ما تستفيد منه دورة اقتصادية متكاملة. "صحيح أن صندوق النقد الدولي قدّر تحويلات الخارج خلال العام 2022 بـ6 مليارات و800 مليون دولار، لكن أعتقد أن الرقم أعلى بكثير كون جزءاً وافراً منها دخل البلد نقداً وبالتالي لا قدرة على إحصائه"، برأي شمس الدين.
استيراد استباقي
[caption id="attachment_1659" align="aligncenter" width="300"] مارديني: السبب في ارتفاع الواردات الحديث عن زيادة الرسوم الجمركية[/caption]الخبير الاقتصادي باتريك مارديني يعزو السبب الرئيس في ارتفاع واردات العام 2022 إلى الحديث عن زيادة الرسوم الجمركية على بعض السلع وتعديل الدولار الجمركي، ما دفع المستوردين لتأمين احتياجاتهم للعامين 2022 و2023. "لكن العام الحالي سيشهد انهياراً كبيراً في الاستيراد لارتفاع الرسوم الجمركية، كما أن من يريد أن يستورد سبق وفعل". هذا من دون إغفال سبب آخر ما زال يساهم في تنشيط الاستيراد وهو دعم المصرف المركزي لبعض السلع كالأدوية والقمح والمحروقات، ما يسهّل استيرادها بأسعار أدنى.
ورداً على سؤال لـ"الصفا نيوز" عن احتلال السيارات والعطور ومستحضرات التجميل صدارة لائحة الواردات، يقول مارديني: "هذه بضاعة تدوم ويمكن تخزينها من دون خوف على انتهاء صلاحيتها، كما أن الطلب عليها آخذ في الارتفاع". ويضيف: "الاستيراد ساعد البلد كي يبقى صامداً وإلا لأصبحنا من أفقر دول العالم. فنحن لا ننتج محروقات ولا نصنّع سيارات ولا نزرع قمحاً. الاستيراد حاجة وطالما نحن قادرون على تمويله فما من مشكلة لأن أي استثمار آخر هو استثمار فاشل. الزراعة والصناعة بحاجة إلى كهرباء، والتكنولوجيا إلى إنترنت، والاثنان محتكران من قِبَل الدولة".
الـ"صورة" فوق كل اعتبار
[caption id="attachment_1657" align="aligncenter" width="289"] سعادة: تمسك اللبناني بنمط الحياة التي اعتاد عليها مهما كلف الأمر سمة بارزة.[/caption]تمسّك اللبناني بنمط الحياة التي اعتاد عليها مهما كلّف الأمر سمة بارزة. المتخصصة في العلاج المعرفي والسلوكي، الدكتور كارول سعادة، التي التقتها "الصفا نيوز" تشرح كيف تختلف الصورة من منطقة إلى أخرى تبعاً للعقلية السائدة. فهناك فئة ما زالت محافظة على نمط العيش ذاته، وفئة لا يمكنها الاستغناء عن أولويّاتها كونها مرتبطة بالأنماط الفكرية والمعرفية المتعلقة بمعتقدات معيّنة. وهي معتقدات لها علاقة مباشرة بالصورة التي يكوّنها الفرد عن ذاته وبنظرة الآخر له، كما بالقيمة الذاتية المرتبطة بما يملك من مقتنيات وكيفية تأقلمه مع الظروف.
لكن ثمة فئة أخرى لا يُفسَّر سلوكها إلا كردّ فعل على حالة القلق التي تعيشها فتحاول التأقلم مع الظروف. وتتابع سعادة: "نرى أشخاصاً مستعدّين للحفاظ على مستوى معيّن في حياتهم اليومية خاصة في ما خصّ التسوّق والإنفاق خلال فترة الأعياد وعلى عمليات التجميل حتى لو قصّروا في أماكن أخرى أكثر أهمية. فذلك، بالنسبة إليهم، عامل مساعد لمواجهة الاكتئاب والقلق ويمنح شعوراً باللذة المؤقتة".
لنأخذ مثلاً حجم استيراد مستحضرات التجميل الذي تخطّى الـ40 مليون دولار العام الماضي، في حين أن مواد ضرورية كالأدوية وحليب الأطفال تغيب دورياً عن الرفوف. العيش في مجتمع ما وتطوّره عبر السنين، يبني في الوعي كما في اللاوعي الجماعي صورة معيّنة للـ"أنا" وللتواجد مع الآخر. وهذه أنماط باطنية ولاواعية تشكّل المحرّك الأساسي لتصرفّاتنا، من وجهة نظر سعادة. "اللبنانيون بشكل خاص لديهم ما يكفي من المعتقدات المرتبطة بصورتهم التي يعكسونها على الآخرين من خلال الثقة بالنفس والنظرة إليها. ومحاولة تغيير ذلك تأقلماً مع الظروف يخلق مزيداً من الاكتئاب والقلق". وهذا قد يفسّر جزئياً كون 25% من اللبنانيين، بحسب قسم الطب النفسي في مستشفى أوتيل ديو الجامعي، يعانون من اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب والفصام والإدمان.