هي معركة بين دونالد ترامب وباراك أوباما وواهم من يعتبرها عكس ذلك، فترامب يتصرف هذه الأيام من على كرسي ترشيحه كأنّه جالس على كرسي "البيت الأبيض" يأمر وينهي، فيما هو في الطريق إليه وقد يصل وقد لا يصل. وفي المقابل يدير أوباما الحملة الانتخابية العميقة لكَمَلا هاريس التي فضّلها على زوجته ميشيل في الترشيح الرئاسي، مواظباً على وضع ما أمكنه من عراقيل في طريق ترامب، لاقتناعه بأنّ شخصية الأخير لا تليق بمن سيكون سيد البيت الأبيض، وبأنّ التجربة معه في ولايته السابقة كانت البرهان، إذ لو كان جديراً بالرئاسة لفاز بولاية ثانية عندما تنافس مع الرئيس الحالي جو بايدن الذي كان نائب الرئيس الأميركي السابق.

ولو كان الدستور الأميركي يجيز لأوباما الترشّح لولاية رئاسية ثالثة لفعلها بلا تردد في مواجهة ترامب. ولذلك استعاض الرجل عن المانع الدستوري لترشيحه بـ"أوباما كير" سياسي تيمّناً بمشروعه الشهير "أوباما كير" الصحّي الذي كان من أبرز إنجازته خلال رئاسته للولايات المتحدة الأميركية التي يقول البعض إنّها دامت 15 عاماً، إذ تولّاها لدورتين مباشرةً ولثالثة غير مباشرة كانت من خلال ولاية بايدن الحالية، وإذا فازت هاريس في انتخابات 5 تشرين الثاني المقبل فقد تحتسب ولايتها الرئاسية له ولاية رابعة غير مباشرة.

ويظهر، حسب المناخات والاستطلاعات حتى الآن، أنّ حظوظ هاريس تتقدّم على حظوظ ترامب، الذي يذهب أحياناً إلى الخروج عن اللياقات ضدّها في حملته الانتخابية، معتقداً أنّه يستطيع بذلك استمالة غالبية الناخبين الأميركيين إليه.

وأكثر من ذلك، فإنّ أوباما ينطلق في دعمه لهاريس خدمة لحزبه الديموقراطي من أجل تمكينه من الاستمرار في تولّي الرئاسة الأميركية إلى أمد طويل، وكذلك ينطلق من اقتناع لديه بأنّ الرئاسة الأميركية لا تليق بها شخصية مثل ترامب، وهو يعتبر أنّ للأخير ممارسات لا تشبه ما يجب أن يكون عليه رئيس أعظم دولة في العالم.

ويقول بعض المتابعين للانتخابات الأميركية من قرب أنّ حظوظ هاريس ارتفعت بسبب دعم أوباما لها ووقوفه خلف ترشيحها، فهو من يدير حملتها الانتخابية الآن بطريقة غير مباشرة، وسيدير رئاستها بالطريقة نفسها إن كتب لها الفوز. وأوباما هو من عيّن فيليب موردن مديراً لحملة هاريس، وهو كان مساعدها للشؤون الخارجية، فضلاً عن أنّ كلّ عناصر الفريق العامل معها الآن كانوا جميعاً ضمن فريق العمل الخاص بالاتفاق النووي الذي وقعته الولايات المتحدة الأميركية عام 2015 مع إيران في إطار مجموعة دول "الخمس زائداً واحداً" أيام رئاسة أوباما، وقد أخرج ترامب الولايات المتحدة من هذا الاتفاق أيام رئاسته عام 2017. ولذلك، فإنّ إيران التي لا تخفي تأييدها ترشيح هاريس بعدما كانت تؤيد ترشيح بايدن قبل أن ينسحب، لن تقدم في هذه المرحلة، وحتى موعد الانتخابات الأميركية، على أيّ خطوة عسكرية أو غيرها من شأنها تعريض ترشيح هاريس للخطر، حسب تأكيد بعض المطّلعين على مناخ المفاوضات غير المباشرة الأميركية ـ الإيرانية الجارية حول شؤون المنطقة هذه الأيام عبر القناة العمانية وسواها. 

ولذلك فإنّ لعبة الرئاسة الأميركية وما يدور حولها في واشنطن أكبر بكثير من اللعبة الدائرة هنا في الشرق الأوسط. 

فقبل أسبوع كتبت صحيفة "وول ستريت جورنال" ما يشير إلى أنّ هاريس بدأت تحضير تشكيلة إدارتها لتكون جاهزة في حال فوزها ودخولها إلى البيت الأبيض في 20 كانون الثاني. وذكرت الصحيفة أنّ عدداً من أركان إدارة بايدن الحالية لن يكون لهم مكان في إدارة هاريس، وعلى رأس هؤلاء وزيرا الخارجية والدفاع أنتوني بلنكن ولويد أوستن، وأنّ مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وليم بيرنز قد يعيّن وزيراً للخارجية، فيما سيحلّ فيليب مورغن في موقع مستشار الأمن القومي الذي يشغله جيك سوليفان حالياً. ولوحظ أنّ الموفد الرئاسي الأميركي إلى لبنان وإسرائيل آموس هوكستين (وهو مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الطاقة العالمية) لم تأتِ الصحيفة أو أحد على ذكره في هذا المضمار، لا بقاء حيث هو ولا خروجاً، كأنّ الرجل لم يعد له محلّ من الإعراب". 

ترامب ونهاية إسرائيل

إلى ذلك، يستغرب مصدر مطّلع على الموقف الأميركي عدم تناقل وسائل الإعلام مقاطع مهمة من حديث ترامب للمنظمات اليهودية التي التقاها قبل أسبوعين في ولاية نيوجرسي في إطار جولاته الانتخابية في الولايات الأميركية. ويقول المصدر إنّ ترامب كان صريحاً في كلامه إلى أركان هذه المنظمات إذ قال لهم: "إنّ إسرائيل ستنتهي إذا فازت كَمَلا هاريس". وأضاف: "لم يعد وضعكم هنا كما كان قبل 10 سنوات، فالولايات المتحدة الأميركية تغيّرت كثيراً ولم يبقَ لديكم فيها ذلك الزخم الذي كان، وإذا فازت هاريس ستنتهي إسرائيل". واستخدم ترامب هنا تعبير "إسرائيل فينيش". 

ولكن ترامب سرعان ما استدرك ليؤكّد: "سأدعم إسرائيل وأريدها أن تنتصر بسرعة" مكرّراً "أريدهم (القادة الاسرائيليين) أن ينتصروا بسرعة". مضيفاً "إنّ مساحة إسرائيل تبدو صغيرة على الخريطة، ولطالما فكّرت كيف يمكن توسعتها". 

وبدا ترامب من خلال هذا الكلام أنّه يحاول استمالة الناخبين اليهود الأميركيين الذين يتسابق مع منافسته هاريس إلى خطب ودّهم، خصوصاً أنّ محدّثيه في لقاء نيوجرسي الانتخابي هم أركان المنظمات اليهودية، ويبدو أنّه استخدم معهم أسلوب الترغيب والترهيب، الترغيب عندما قال إنّه يريد دعم إسرائيل لكي تنتصر في حربها على حركة "حماس"، والترهيب هو عند تحذيره من زوال إسرائيل إذا فازت هاريس. ولكنّ الأخيرة لم يصدر عنها إلى الآن في حملتها الانتخابية إلّا الكلام الداعم لإسرائيل، ويؤازرها ديبلوماسياً كلّ من بايدن وبلنكن اللذين انقلبا قبل أيام على مواقفهما في مفاوضات الدوحة والقاهرة إلى تأييد مطالب بنيامين نتنياهو واتّهام "حماس" بعرقلة المفاوضات والتوصل إلى اتفاق لوقف النار، وذلك بعدما كانت "حماس" وافقت على طرح بايدن، فيما كانت الإدارة الأميركية تضغط على نتنياهو ليسهّل التوصّل إلى اتفاق. في هذه الحال، تعثّرت إلى حدّ فشل المفاوضات التي جرت وتجري في القاهرة والدوحة بين حركة "حماس" وإسرائيل برعاية الثلاثي الأميركي ـ المصري ـ القطري، وعلى أساس مبادرته الأخيرة لوقف النار في غزة وإطلاق الأسرى والمعتقلين الإسرائيليين والفلسطينيين. 

الأوضاع ليست ذاهبة إلى حرب شاملة على رغم التهديد الإسرائيلي بها

سرّ تصلّب نتنياهو

ألّا أنّه اتضح لاحقاً أنّ تصلّب نتنياهو وتمسّكه بشروطه حصلا بناءً على طلب ترامب منه، حسب مجلّة "ذا نيو ريبلك" الأميركية، تجنّب الاتفاق على وقف إطلاق النار مع حركة حماس "خوفاً من أن يساعد هذا الأمر نائبة الرئيس الأميركي كَمَلا هاريس على الفوز في 5 تشرين الثاني". 

وقد نقل عن ترامب قوله في حملته الانتخابية إنّه سيعمل على وقف الحرب الأوكرانية ـ الروسية وإنهاء "الفوضى" التي تحصل في منطقة الشرق الأوسط. 

ويعلّق أحد المسؤولين المتابعين لما يجري في الجنوب وقطاع غزة فيقول إنّ الانتخابات الرئاسية الأميركية لم تُجرَ بعد، ولكنّ المرشح ترامب يتصرّف كأنّه فاز فيها، ويتخيّل نفسه جالساً في البيت الأبيض يتخذ القرارات ويصدر التعليمات في كلّ الاتجاهات، فيقول لنتنياهو "لا توقّع اتفاقاً لوقف النار في غزة" فيستجيب له ويتناغم معه داعماً حملته الانتخابية، ويتصرّف تجاهه كأنّه قد فاز بالرئاسة وبدأ التحضير لتنسيق الخطوات معه لاستكمال تنفيذ "صفقة القرن"، على أن يسبق ذلك استكمال حربه التي يريد ترامب له أن ينتصر فيها سريعاً بالإجهاز على القضية الفلسطينية بدءاً بالقضاء على حركة "حماس" وتدمير قطاع غزة برمته، وهو يعمل لهذا المشروع بكلّ ما أوتي، ولهذا السبب يرفض الدخول في أيّ اتفاق لوقف النار غير آبه بمصير الأسرى الإسرائيليين سواء ماتوا أو بقوا أحياء. 

على أنّ ترامب وهاريس يتنافسان على خطب ود الناخبين اليهود الأميركيين، وذلك عبر التماهي مع مطالب نتنياهو ومضمون سرديته البكائية الأخيرة أمام الكونغرس، بدليل أنّ بايدن بعدما كان طرح صيغة اتفاق لوقف إطلاق النار قبلت بها "حماس" ورفضها نتنياهو، انقلب بايدن لاحقاً على موقفه بين ليلة وضحاها ليتّهم حماس بعرقلة الاتفاق وتبنّى مطالب نتنياهو بالبقاء في محوري فيلادلفيا ونتساريم، وقد أشفع نتنياهو شروطه بالتاكيد أنّ أيّ اتفاق لوقف النار لن يمنعه من استمرار الحرب حتّى القضاء على حماس، علماً أنّ بايدن الذي انقلب على خطّته الأصلية التي وافقت عليها مصر وقطر أدخل عليها نصّاً يقضي ببقاء الجيش الإسرائيلي متمركزاً على طول الحدود بين غزة ومصر خلافاً لاتفاق كمب ديفيد بين مصر وإسرائيل، الأمر الذي رفضته حماس بشدة متمسّكة بطلبها الانسحاب الإسرائيلي من كلّ مناطق القطاع.

لا حرب إنّما استنزاف

على أنّ مصدراً في "محور المقاومة" قال إنّ التعثّر الذي يصيب مفاوضات القاهرة والدوحة سببه ما سمّاه "مؤامرة بلينكن"، إذ إنّ المشهد تبدّل سلباً بعد محادثاته في تل أبيب التي انتقل منها إلى القاهرة فالدوحة، وأضاف المصدر: "بلينكن كان وضع يهوديته على الطاولة منذ زيارته لإسرائيل غداة عملية "طوفان الأقصى"، وما زال يتصرف منذ ذلك الحين مع الوضع في غزة على هذا الأساس، ولم يحد عن هذا النهج طوال زياراته العشر للمنطقة منذ الثامن من تشرين الأول الماضي إلى اليوم. 

إلى ذلك، وفي ظلّ ارتفاع منسوب المخاوف وتعدّد السيناريوهات وروايات بعض الديبلوماسيين لبعض السياسيين حول حرب كبرى تستعد إسرائيل لشنّها على لبنان، يؤكّد المصدر "أنّ المقاومة بعد أن ردّت على اغتيال القائد العسكري لحزب الله فؤاد شكر، فأنّ إيران بدورها ستردّ على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في عقر دارها، كذلك سترد حركة "أنصار الله" الحوثية و"المقاومة العراقية"، وذلك وفق توقيت كل منها. ولكنّ الأوضاع ليست ذاهبة إلى حرب شاملة على رغم التهديد الإسرائيلي بها، فالوضع على الجبهة الجنوبية باق على وتيرته الحالية من عمليات استنزاف متبادلة. فإسرائيل تقصف وتغتال مقاومين وقيادات عسكرية في المقاومة، والأخيرة ترد بقوة على هذه العمليات لكن ضمن قواعد الاشتباك حتى لا تعطي إسرائيل أي مبرر لتوسعة رقعة الحرب على رغم أنّ المقاومة مستعدة لكلّ الاحتمالات. 

‏جولة من جولات

يخطئ كثيرون في توقّعهم أنّ طوفان الأقصى وما تلاه من حرب تدميرية على قطاع غزة على طريق تدمير قضية الشعب الفلسطيني سينتهي بالاتفاق الذي يعمل عليه الثلاثي الأميركي ـ المصري ـ القطري لوقف النار والإفراج عن الأسرى والمعتقلين. فهذا الطوفان لم ينته وقد يعم المنطقة، وما حصل إلى الآن ما زال ضمن ما يمكن تسميته جولة أولى ستليها جولات متعددة تباعاً وفي مواعيد ستحدّدها حركة النزاع بين المقاومة وإسرائيل، أو داخل المجتمع الإسرائيلي المأزوم والمهدّد بالتفكك بعد خسارة تل أبيب قوة الردع التي كانت تشكّل بالنسبة إلى الإسرائيليين "الضمان" على مستوى وجودهم ومستقبلهم ومستقبل "دولة إسرائيل" في ذاتها التي كان أحد مؤسسيها بن غوريون قد قال يوماً إنّ "إسرائيل تسقط عند تعرّضها لأوّل هزيمة". 

ويقول ديبلوماسي خبير في الشؤون الأميركية إنّ الحرب التي يتحدث عنها البعض أو التي تلوّح بها إسرائيل لن تندلع، لأنّ الواقع لم يتغيّر، إذ لا أحد يريد هذه الحرب إلّا نتنياهو الذي يريد استدراج الولايات المتحدة الأميركية إلى حرب ضد إيران. 

ويضيف هذا الديبلوماسي أنّ الهمّ الأساسي لنتنياهو هو إيران، ولذلك يحاول أن يفتعل حرباً بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية. وهذه المحاولة ليست بجديدة. كما أنّ الحرب التي يمكن إسرائيل أن تشنّها على حزب الله لن تؤدي إلى نشوب حرب أميركية ضد إيران. فهذه اللازمة يطلع بها نتنياهو بين حين وآخر لكنّه يعود منها دائماً خالي الوفاض. 

فالسنة الأميركية الراهنة، يقول المصدر، هي سنة انتخابية ولا يمكن واشنطن أن تذهب خلالها إلى حرب، أيّا كانت الاعتبارات، لأنّ هم إدارة بايدن هو تأمين وصول نائبته هاريس إلى البيت الأبيض، وإدارته مهتمة هذه الأيام بمحاولة استقطاب أصوات الشبان العرب والمسلمين في مجموعة من الولايات الأميركية، وفي مقدمها ميشيغن وبنسلفانيا وغيرهما.