التحقّق من الصورة أداة أم وظيفة؟ الجواب عن هذا السؤال يمكن أن يلخص حكاية النظام العالمي الجديد. فصورة رياض سلامة المَقود إلى جلسة التحقيق، وإنْ لم تظهر يداه مكبلتين بالأصفاد، لا تشبه أبداً جلسات التصوير الخاصة الكثيرة التي كان الرجل نجمها الأول حين كانت عيناه تلمعان بفكرة مقعد رئاسة الجمهورية بعد موقع الحاكم. إنها الصورة ودلالاتها وزوايا التقاطها من أسفل أو أعلى، تضيق بشاغلها أو يضيع هو في عمقها. إنها الصورة وما تمثّل وما يمثل فيها من عناصر كدلالة على تفخيم أو بساطة.
بغضّ النّظر عن صورة سلامة بعد التحقيق معه، إدانةً كانت أم تبرئة، ستبقى رؤيته مَقوداً إلى التحقيق حاضرة في الأذهان. تماماً كصورة الرئيس حسني مبارك خلف القضبان، أو كآخر صورة للزعيم الليبي معمر القذافي قبيل قتله. يقول البعض إنّ العامل المشترك بين هذه الصور هو رفع الغطاء عن أبطالها، وإسقاط تلك الهالة التي أحاطهم الخارج بها ودعمهم في وجه شعوبهم بشكل أو بآخر. وإلّا لما أمكن رؤية ما حلّ بهم على الشاشات وفي غير مكان، ولكان مصير أخبارهم المنع من النشر أو الحجب على منصات وسائل التواصل الاجتماعي.
ووفق كل ما سلف، يصبح عين اليقين القول المأثور "الصورة بألف كلمة" وتنشط المؤسسات الإعلامية، ولا سيما الغربية منها، في عمليات التحقق من الصور. فلا بد للصور أن تكون سليمة حقيقية. وفي هذا الإطار، نتذكر قضية مصور لبناني استغنت عنه وكالة أنباء عالمية بعدما استخدم صورة في حرب تموز 2006 قيل إنّه تلاعب بحجم الدخان المتصاعد من القصف الإسرائيلي لضاحية بيروت الجنوبية. ما أعظم هذا الحرص على دقة الصورة وأصالتها، وضرورة أن تشمل جميع الأحداث بلا تمييز بين مواقعها وغاياتها.
حرصُ المؤسسات الإعلامية العالمية على الدقة والصدقية كان يمكن أن يكون محل تقدير فعلاً، لو أنّها تعامل كلّ الأحداث وفق المقاييس نفسها. تلك المؤسسات التي سارعت إلى تبني الرواية الإسرائيلية عن رؤوس الأطفال المقطوعة ومن دون صورة، تجدها لا تتحدث عن صور عشرات آلاف الأطفال الذين قتلهم جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة منذ السابع من تشرين الأول الماضي إلى اليوم. لا يأبه الإعلام الغربي بصور أشلائهم المتناثرة ولا بأطرافهم المبتورة ولا حتى بأعدادهم، فكيف بأسمائهم. هو إعلام يسمّي القاتل "جيش دفاع". لا ضرورة للتدقيق في الصورة هنا. ليس مهماً حجم الدمار الذي تبيّنه كلّ الصور في تلك البقعة الأرضية. الصورة يجب أن تركز على معاناة القاتل لا الضحية. حين ارتكبت إسرائيل مجزرة مستشفى المعمداني سارعت فرق التحقق من الأخبار في المؤسسات الغربية إلى تحليل الصورة من زوايا مختلفة، علّها تجد فيها ما يبرّئ إسرائيل من الجريمة. مع تكرار المجازر، ومن دون خجل أو مواربة أو تنصل، لم يبق هناك ضرورة لتحليل الصور ولا حتى لإدانة المرتكب.
مع تكرار المجازر، ومن دون خجل أو مواربة أو تنصل، لم يبق هناك ضرورة لتحليل الصور ولا حتى لإدانة المرتكب.
رفض نشر صُور الأشلاء والضحايا ومن هم في حالة صدمة يجب أن يكون احتراماً لهم، وليس تجاهلاً لمصابهم ومعاناتهم أو تجهيلاً لما حلّ بهم. من يرفض نشر صورة الدماء لأسباب أخلاقية يمكن أن ينشر صور مئات المقابر الجماعية. يمكن أن ينشر صورة أُمّ فقدت فلذات كبدها أو صورة أب يعانق حذاء صغيرته، أو يمكنه أن ينشر صُور تلك الوجوه الضاحكة مع الإشارة إلى أنّ إسرائيل سرقت منها الحياة ومن أهلها الفرح.
أدوات التحقق من الصور كثيرة، ولكنّ الخيارات هي الأهم. صور يتمّ التحقق من صحّتها وصور لا تُنشر ولو كانت حقيقية. هل يمكن السؤال عن صور المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة؟ وكيف لم تؤثر على صياغة الأحداث أو تغطيتها؟ وجوه تلك الأسماء التي اختارت آلة القتل الإسرائيلية محوها من السجلات ومن الحياة، لماذا لم تجد طريقها لتصبح خبراً ولو في زاوية الصفحة التي تصدّرتها قصص خوف المستوطنين أو هروبهم إلى الملاجئ؟
المسألة لم تعد في المعالجة الموضوعية للأحداث ولا في اختيار الأخبار موضوع التغطية، ولا في وجود مصادر متعددة تؤكّد أو تنفي. المسألة تكمن في تلك الصورة التي لا تحتاج إلى التحقّق من صحّتها. إنّها صورتنا الإنسانية، وأين يقف كل منّا حيال ما يحصل في قضية الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني. إسرائيل تقتل إنسانيتنا وتحولنا إلى جثث لا تتفاعل مع بكاء الأطفال من خوف وألم وجوع ويُتم وقهر، وتطول اللائحة، وهي حالات تظهر في آلاف الصور الموثقة، ولكن العالم يشيح بنظره بعيداً عنها.
الصورة اليوم بألف ضحية، بل بآلاف الضحايا، ولكن الإعلام الغربي مشغول بالتلاعب بالدخان المتصاعد من صورة في قصف إسرائيلي لضاحية بيروت الجنوبية عام 2006.