أبصر مشروع قانون الموازنة العامة للعام 2025 النور، مُنزِلاً الاقتصاد إلى احتمالات الغرق في المزيد من الظلمات. الاعتراض وانتقاد الموازنات العامّة للدول الغارقة في الأزمات، على شاكلة لبنان، حالة عامّة، لكون هذه الموازنات "تأخذ ولا تعطي". فتأتي كـ "الغول" الجائع الذي يقتات على شقاء الأفراد، وتعبهم اليومي، لتعويض ما يصرفه من طاقة على الظلم والفساد، والمجون في كثير من الأحيان. وتخرج هذه الموازنات بافتخار، واضعةً "بخلاء الجاحظ" في قمّة الكرم، مقارنة بما تقدّمه لمواطنيها من خدمات واستثمارات وبنى تحتية وحقوق بديهية من رواتب لائقة وتعويضات مجزية وخدمات اجتماعية.

مسودة مشروع قانون موازنة 2025 التي رُفعت إلى مجلس الوزراء قبل نهاية آب الماضي قد لا تشذّ، بعد تشريحها، عن تلك الموازنات. وبدلاً من التركيز على تضمين الموازنة موادَّ تساعد على النمو وتحقيق رفاهية المواطنين، يتغنّى المسؤولون بتقديمها في مواعيدها الدستورية المحدّدة بالمادة 17 من قانون المحاسبة العمومية. كأنّ الالتزام بالدستور أصبح إنجازاً، يستحقّ التوقّف عنده، وليس أمراً بديهياً مفروغاً منه. في هذه الظروف بالتحديد، ولدت موازنة 2025، بخمسين مادّة ليس غير، تضمّنت، على عددها القليل، الكثير من الضرائب والرسوم.

حجم الموازنة

يبلغ مجموع الموازنة العامة إذا احتسبناها على سعر صرف 89500 ليرة، 4 مليارات و779 مليون دولار. وتقوم على نوعين من الواردات:

* الأول، الواردات العادية المحصّلة من الضرائب والرسوم، وعوائد المؤسسات العامّة بقيمة 4 مليارات و582 مليون دولار.

* الثاني، الواردات الاستثنائية، تموّل عادة من الاقتراض بقيمة 196 مليون دولار.

يزيد حجم موازنة العام 2025 حوالى 1.5 مليار دولار عن حجم موازنة العام 2024 المقدّر بـ 3.3 مليار دولار. خلافاً لموازنة العام الماضي المتوازنة، تتضمّن موازنة 2025 عجزاً تقريبياً بنسبة 4.1 في المئة وبقيمة 196 مليون دولار. وهو ما يطرح، من حيث الشكل، تساؤلاً مهماً: هل من رَفع الإيرادات بالضرائب والرسوم 800 في المئة بين العامين 2022 و2025، "غصّ" بزيادتها بعض الشيء لتأمين 196 مليون دولار؟ أم أنّ هذا العجز أتى لإضفاء الطابع المنطقي على الموازنة، والإيحاء أنّها لا تعتمد على الضرائب لتمويل النفقات. ذلك مع العلم أنّه من المستحيل على الحكومة الاستدانة من الخارج والداخل في ظلّ التصنيف الائتماني السلبي، وانهيار القطاع المصرفي.

ملاحظات أولية على مشروع قانون موازنة 2025

تشبه الموازنات إلى حد ما حقول الألغام. إذ كلّ مادة من موادها يمكن تضمينها لغماً مخفياً ينفجر بعد إقرارها في وجه المكلّفين والاقتصاد. وهي تحتاج إلى قراءة متأنّية وعميقة. إلّا أنّه يمكن إعطاء بضع ملاحظات أولية على موازنة 2025 لتحديد مسارها العام، بحسب مدير المحاسبة السابق في وزارة المال أمين صالح.

من الناحية الدستورية والقانونية

لا تتضمن قطع الحساب عن العام 2024، وهو المستند الأهمّ الذي يُبيّن بالأرقام ما حققته الموازنة السابقة من إيرادات وما دفعته من نفقات. وستكون الموازنة مخالفة للدستور إن لم يرفق بها قطع الحساب، والحسابات المالية للدولة وفقاً لإحكام المادة 87 من الدستور. وليس من الظاهر إلى اليوم إنجاز وزارة المال هذه الحسابات، أو أقلّه، تقديمها.

تخالف قانون المحاسبة العمومية لعدم تضمّنها جداول التحصيلات الضريبية والنفقات عن السنتين 2022 و 2023 والأشهر المنصرمة من العام 2024.

لم تتضمّن "فذلكة الموازنة"، وهي تبريرات وزير المال لبنود الموازنة وشروط وضعها خاصة من حيث تحديد الاعتمادات والفروقات في الاعتمادات بين العام الماضي والعام الحالي وأسباب هذه الفروقات.

تخفيض سعر صرف العملة اللبنانية مقابل الدولار لزيادة العائدات من الرسوم الجمركية والضريبة على القيمة المضافة والرسوم الإدارية والضرائب على الدخل.

من الناحية المالية

- تعتمد الموازنة على التضخّم. فهناك زيادة في الضرائب والرسوم مقدارها 1.1 ترليون ليرة لبنانية، بزيادة 34 في المئة عن موازنة 2024 التي بدورها زادت بنسبة 763 في المئة عن موازنة 2022. وبذلك تكون الزيادة في الضرائب والرسوم عن موازنة العام 2022، حوالى 800 في المئة. وهذه الضرائب والرسوم بمعظمها (بنسبة 76 في المئة) غير مباشرة على الاستهلاك. منها الضرائب على القيمة المضافة، والضرائب على الدخل، والرسوم الجمركية. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، فقد زادت الرسوم الداخلية على السلع، أي رسوم الاستهلاك بنسبة 35 في المئة. والضريبة على القيمة المضافة بنسبة 40 في المئة. الرسوم الجمركية بنسبة 56 في المئة. والعائدات والرسوم الإدارية زادت بنسبة 104 في المئة. كما زادت رسوم المطارات. في المقابل، تظهر الموازنة أنّ هناك انخفاضاً في إيرادات مرفأ بيروت وفي عائدات الخزينة من الاتصالات.

- لم تتضمّن إيرادات مصرف لبنان من ضمن إيرادات المؤسسات العامة. مع العلم أنّ بند الذهب وحده قد زاد بنسبة كبيرة مع ارتفاع أسعار المعدن الأصفر وتجاوز سعر الأونصة 2500 دولار.

- تتضمّن الموازنة العودة إلى الاقتراض، أي العودة إلى الاستدانة، بقيمة تصل إلى 18 تريليون ليرة، أو ما يقارب 200 مليون دولار على سعر صرف 98500 ليرة.

- تتضمّن الموازنة نحو 31 ألف مليار ليرة أي نحو 346 مليون دولار من النفقات كفوائد على سندات الدين بالعملة اللبنانية أي "اليوروبوندز". مع العلم أنّ لبنان تعثّر في سداد الديون في العام 2020، ولم يتوصل بعد إلى اتفاق مع حملة السندات لإعادة هيكلة الدين. فكيف نعود إلى دفع هذه الفوائد؟

- لا تعكس الموازنة خطّة مالية واقتصادية واجتماعية للدولة اللبنانية، كما يفترض بالموازنات.

المشوار أمام مسودة مشروع قانون موازنة 2025 ما زال طويلاً، فهي ستُدرس وتُعدّل في مجلس الوزراء، وتُحال على لجنة المال والموازنة النيابية، حيث سيشملها، كما كلّ مرة، الكثير من التعديلات. فهذه اللجنة، وإن كان لا يحقّ لها زيادة النفقات، تستطيع تخفيض الإيرادات وإلغاء رسوم وضرائب. وعلى الرّغم من كلّ ذلك، فإن أكثر ما يخشاه أمين صالح هو تمويل نفقات هذه الموازنة الكبيرة من التضخم. أو ما يعني تخفيض سعر صرف العملة اللبنانية مقابل الدولار لزيادة العائدات من الرسوم الجمركية والضريبة على القيمة المضافة والرسوم الإدارية والضرائب على الدخل. بهذه الطريقة ترتفع الإيرادات تلقائياً، ولكنّها تؤدّي إلى إضعاف القدرة الشرائية للمواطنين وزيادة مستويات الفقر والحرمان. فالتضخّم عبر تخفيض سعر الصرف هو الضريبة الكبرى التي يدفعها المواطنون مهما بلغت بقيّة الضرائب من أرقام خيالية.