ما زالت الاحتفالات والفاعليات الخاصة بإعلان البطريرك الماروني إسطفان الدويهي (1630 – 1704)، طوباويًّا قائمة، في أكثر من منطقة، وخصوصًا في إهدن مسقط رأس "أبي التاريخ الماروني وعمود الكنيسة المارونية"، كما لُقب، وعلى أكثر من مستوًى.
أحدث تلك الفاعليات ندوة أقيمت، ضمن معرض إهدن السابع عشر للكتاب، في ساحة "الميدان"، عن كتاب – مسرحية للكاتب والصحافي اللبناني أنطوان فرنسيس، عنوانه "بطرك الأزمنة إسطفان الدويهي: مسرحية عن حياة وأعمال وعصر البطريرك الطوباوي".
جمعت الندوة، إلى الكاتب فرنسيس، نقيب الفنانين والممثلين الممثل جورج شلهوب، والأب الفنان جان جبور، وكاتب هذه السطور، وقدم لهم الكاتب سركيس أبو زيد.
عرض جورج شلهوب للأسباب والظروف التي حالت دون عرض المسرحية التي كتبها فرنسيس، عام 2012، في العام 2014 وكان سيؤدي فيها دور البطريرك الدويهي، على أن يتولى إخراجها المخرج يعقوب الشدراوي، بمشاركة عشرات الممثلين. ولفت إلى عدم توافر المال لإنتاجها الضخم و"صعوبة إيجاد منتجين وبخاصة للأعمال الدينية".
أما الأب جبور فلحن وأدى، بصوته الشجي، ترتيلة من الكتاب "يا أم الله يا مريم إسمك يعلا ويتعظّم، ربي العاطيني عينيَن عارف شو عم بتألّم".
وأما الكاتب فرنسيس فشكر للمنتدين والحضور تلبيتهم الدعوة إلى الندوة، وقال: "من خلال كتابي فهمت الروحانية المارونية التي أؤمن بها وهي المحافظة على نقاوة العيش والعطاء والتواضع، وتبدَّل مسار حياتي مذذاك"، مشيرًا إلى "أنّ عطاء البطريرك الطوباوي للكنيسة لا يقدر ولا يحدد".
وكان لي كلمة في الكتاب – المسرحية، باركت فيها أولًا للبنان وللكنيسة تطويب البطريرك، وثانيًا لإهدن وميدانها معرض الكتاب، وثالثًا للزميل فرنسيس، صحافيًّا وكاتبًا ومؤرخًا، مؤلفه الجديد، خصوصًا أني تشاركت المنبر مع قامة فنية عالية مثقفة ومميزة النقيب جورج شلهوب، ومع صوت يرتدي جبة الأصالة وعبق البخور، ولعوده في قلبي ووجداني وتر الأخوة والصداقة الراهب اللبناني جبور، يعزف ويرن.
أما وقد طوينا صفحة احتفالات التطويب، ورفعنا البطريرك الدويهي على مذبح الكنيسة، فإني أسأل: مسرحية "بطرك الأزمنة" التي كتبت من زمان، ونُشرت قبل كثير وقت من يوم التطويب، ألم يكن الأجدى والأجدر أن تتجَّسد مسرحية، زمن القحط المسرحي، ونحتفي بأغانيها وأهازيجها، بدلًا مما سمعنا من أغنيات مفترضة، للمناسبة، افتقَدت في معظمها، شعرًا ولحنًا وأداء، الروحانية الكنسية، فتُعرض تلك المسرحية حيث أقيمت احتفالات وقداديس بتطويب البطريرك الدويهي؟
سؤال وحسرة ولائمة على كثير مما في كنيستنا، ليس هنا أوانُ طرحِه.
كان ما سبق هامشًا، لأدخل الآن إلى صلب الكتاب – المسرحية.
ليس غريبًا على كاتبٍ باحثٍ مؤرِّخٍ، كأنطوان فرنسيس، بما يتمتَّع به من حسٍّ أدبيٍّ ورؤية شاملة موضوعيَّة، ومعرفة متعمِّقة بتاريخ لبنان، وبتاريخ الكنيسة، ولا سيَّما المارونيَّة، أن يجود علينا بعمل مسرحيٍّ، من ضمن التزامه الحضاريِّ الإيمانيِّ اللبنانيِّ.
وأيُّ مسرحيَّة؟ وعمَّن؟ مسرحيَّة عن أحد أهم بطاركة الطَّائفة المارونيَّة، العلَّامة إسطفان الدُّويهي، مستوحيًا عنوانَها، "بطرك الأزمنة"، من عنوان أهمِّ كتب صاحب الغبطة الرَّاحل "تاريخ الأزمنة"، لتكونَ خُبزًا روحيًّا على مائدة إعلان الهدنانيِّ العظيم، طوباويًّا على مذابح الكنيسة المارونيَّة في لبنان وفي كلِّ مكان.
وللأستاذ فرنسيس باعٌ طويل في قراءة أحداث هذا الوطن، بعين الباحث الموضوعيِّ، والرَّائي المستشرف، المستخلصِ العبر، وما كُتُبه: "نهاية لبنان الكبير – مئة سنة من الصَّدْمات ورأسماليَّة الكوارث"، و"الشَّرخ من مار مارون إلى الفراغ"، و"العاصية غزوة المماليك لجبَّة بشري"، إلَّا خيرُ شاهد على ما قدمه ابن الدِّيمان إلى المكتبة اللبنانية، وإلى العلم والمعرفة والحقيقة، وإلى أبناء وطنه.
أمَّا مسرحيَّة "بطرك الأزمنة"، موضوع هذا الكتاب، فمشهديَّات، في فصلين، تؤرِّخ، بأسلوب سهل وبتعابير بسيطة، ولكن عميقة، حقبة البطريرك الدُّويهي التَّاريخيَّة والدِّينيَّة والاجتماعيَّة، وتضيء على الفصول الرئيسة في حياته، من تفجُّرِ نبوغه إلى سعةِ علمِه ومعرفتِه، إلى تواضعه وحكمتِه، فمشاركتِه السَّيِّد المسيح، طوال عهده البطريركيِّ الطويل، في حمل صليب الفداء، وتعبُّدِه لمريم العذراء، ناهيك بالكنوز المكتوبة التي تركها، سواء عن تاريخ لبنان أو الكنيسة الماورنية أو رتب القداس، والنوافير والصلوات.
وكان الأستاذ فرنسيس أمينًا على دقَّة الوقائع والتَّواريخ والشَّخصيَّات، لتخرج مسرحيَّتُه كتابَ تاريخ مصغَّرًا، يُقرأ بالعين والوجدان والقلب، فينحفر في الذَّاكرة إلى الأبد.
وتميَّز النص المسرحي بالحوارات الغنيَّة الكثيفة، الطَّريفة أحيانًا، والبسيطة دومًا بساطةَ أهلِ قرانا التي تعبِّر عن أصالتهم، حتَّى إنَّ تعابير كثيرة كُتبت وفق لهجات الهدنانيِّين أو البشرَّاويِّين أو الكسروانيِّين أو الشُّوفيِّين، بحسب سياق القصَّة والسَّرد والأشخاص. لا بل أضفت زجليَّات الأستاذ فرنسيس على النَّص متعة وحيويَّة، وحرفة في تضمين الشِّعر أحداثًا تاريخيَّة ودينيَّة وأسماء شخصيَّات وقرى ومدن وتواريخ ووقائع.
"بطرك الأزمنة" للصديق أنطوان فرنسيس، باقةُ حبر على مذبح طوباويَّة الدُّويهيِّ العظيم، على أمل أن تجسَّد على المسرح، وأن يكتملَ المسارُ المقدس، بإعلان صاحب "منارة الأقداس" قديسًا مارونيًّا على مذابح الكنيسة الجامعة.
واختتمت الندوة بتوقيع فرنسيس كتابه.