أفادت صحيفة «الأخبار» بأنه ثمة بعد نفسي لا يمكن تجاهله لدى مقاربة سلوكيات العدو وقادته. ليس صحيحاً أن في إسرائيل من احتجّ على العدوان ضد اليمن ولبنان وإيران. وحتى من يعارضون حكومة بنيامين نتنياهو، لا يتحدثون عن وقف العدوان، وجلّ ما يطالبون به هو السير في صفقة لإعادة أسرى العدو لدى المقاومة في غزة، على أن يلي ذلك تغيير للسلطة في الكيان، حتى إذا ما تسلموا الحكم عادوا إلى الحرب. وكل من في الكيان، سواء في مقاعد الحكم أو المعارضة، لا ينطقون بكلام يُفهم منه أن إسرائيل قررت مغادرة مربع القتلة، أو أنها مستعدة لتسوية فعلية مع الفلسطينيين.يعرف نتنياهو هذه الحقيقة. كما يعرف طبيعة معارضيه، وهو أكثرهم خبرة بالموقف الغربي، ولا سيما الأميركي، من إسرائيل. لذلك، لا يلقي بالاً لكل الانتقادات، ولن يسير في طريق لا يخطّه بنفسه. وهو عندما أمر بعمليتي الاغتيال في بيروت وطهران، تصرّف وكأنه يفعل ذلك في غزة نفسها، وحتى قصف اليمن لا يختلف بالنسبة إليه عن قصف الشجاعية أو بيت حانون.

في لحظة واحدة، تباهى العدو بإنجازات أمنية - استخباراتية كبيرة، من إرسال مقاتلاته في رحلة طويلة لقصف منشآت مدنية في اليمن، إلى تنفيذ عملية اغتيال دقيقة في طهران للقائد الشهيد إسماعيل هنية. وبينهما، أغار طيرانه على مبنى سكني في الضاحية الجنوبية لاغتيال القائد العسكري لجبهة الإسناد اللبنانية الشهيد فؤاد شكر. وفوق ذلك، وجد أنها اللحظة المناسبة لأن يعلن جيشه أنه تثبّت، الآن، من نجاح عملية اغتيال رئيس أركان كتائب القسام المجاهد محمد الضيف.

والمسرح لا يتعطل بالنسبة إلى نتنياهو. لذلك عمد أمس إلى مجموعة خطوات ذات بعدين سياسي وعسكري. وبحسب ما علمت «الأخبار» فإن الفصل الجديد من المسرحية شمل الآتي:

أولاً: فجأة، رنّت الهواتف في عواصم الدول المعنية بالمفاوضات حول غزة لإبلاغها بأن إسرائيل، اليوم، أكثر جهوزية للدخول في صفقة حول غزة، قائلاً للوسطاء: آتوني بالطرف الآخر لأحاوره حول الصفقة!

ثانياً: طلب من حلفائه الغربيين، الأميركيين والبريطانيين وغيرهم، إبلاغ لبنان بأنه مستعد فوراً للدخول في مفاوضات من أجل تسوية النقاط الحدودية العالقة، شرط أن يتم الأمر في سياق اتفاق سياسي - أمني لوضع ترتيبات جديدة في جنوب لبنان.

ثالثاً: طلب من المنظمات الدولية العاملة في الحقل الإنساني تحديث طلباتها بشأن إدخال مساعدات إلى قطاع غزة. لكنه كرّر «سؤاله الكيدي» عن هوية الجهة الفلسطينية التي ستتولى تسلّم المساعدات وتوزيعها على الناس.

وبحسب المتابعين، فإن العدو يقترح، في الشق الفلسطيني، أن يصار إلى تعديل جميع الأوراق السابقة، وإطلاق «نقاش مكثف» حول اتفاق يقوم على توافق مسبق على إدارة جديدة لقطاع غزة، تكون هي المسؤولة عن التزام حماس بعدم العودة إلى حمل السلاح، بعد أن تضمن إطلاق الأسرى مقابل عدد كبير من المعتقلين الفلسطينيين، لكن وفق قوائم يختار الاحتلال معظم الأسماء فيها. إضافة إلى كونه يعتقد بأن حماس ليست في وضع يسمح لها بفرض الشروط، فيما هو قادر على المطالبة بإطالة المرحلة الانتقالية، بما يسمح لقواته بالتحرك في القطاع عندما تجد حاجة إلى ذلك.

وفي ملف لبنان، سلّم العدو بأن حزب الله سيكون له رده على اغتيال القائد شكر، لكنه يريد من الوسطاء «تنبيه» حزب الله إلى أن الرد لا يجب أن يكون من النوع الذي يفرض عليه الرد من جديد. أي إنه يطلب، بالضبط، عكس ما قاله الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله أمس في خطاب تشييع القائد شكر. وقد بادر وسطاء ممن يقفون دوماً إلى جانب العدو إلى الحديث مع المسؤولين في لبنان، عن «إمكانية قيام حزب الله برد عاقل» يسمح بالانتقال فوراً إلى مفاوضات لعقد صفقة تقود إلى وقف لإطلاق النار على جبهة لبنان.

وإذا كان العدو لا يملك ملفاً يحمله وسطاء إلى إيران، ويرى في نفسه طرفاً قادراً على «معالجة ملف الحوثيين في وقت لاحق»، فإن تركيز العدو على جبهتي لبنان وغزة، ينطلق من أنه يرى في استمرار جبهة لبنان عنصراً بات يتجاوز الإسناد لغزة. وينقل أحد المتابعين عن مسؤولين إسرائيليين قولهم إن حزب الله في لبنان، «يسعى من خلال استمرار القتال، إلى تشجيع قيادة حماس في غزة على مواصلة القتال، وليس العكس».

ماذا في المقابل؟

صحيح أن السيد نصرالله كان واضحاً وحاسماً في خطابه أمس، لكن ما لم يقله قائد المقاومة في بيانه، وصل على شكل رسائل مباشرة إلى كل من يهمّه الأمر. ولمزيد من الشرح، يقول معنيون إنه أراد تثبيت نقاط النزاع الجديدة مع العدو، وفق منطق يقول بالآتي:

أولاً: إن حزب الله الذي يعرف إيران جيداً، يدرك بأنها سترد بقسوة على جريمة اغتيال القائد هنية في طهران. لا بل إن نصرالله قال ما هو أكثر من ذلك، عندما قدّم توصيفاً لحجم الأذى الذي تسببت به عملية الاغتيال للحكومة الإيرانية، لينطلق من فهمه للأمر عند تقديره لطبيعة الرد الإيراني المحتوم. وهو في هذا الباب لم يكن محللاً أو مراقباً، لكنه كان يتحدث واثقاً عن فعل له من يقرره ومن ينفّذه.

ثانياً: جدّد السيد نصرالله التمسك بجبهة الإسناد اللبنانية، وأشار إلى أن العمل قد يحتمل تعديلات في الآليات المتّبعة. لكنه كان واضحاً في أن المقاومة تفصل، بصورة قاطعة، بين حسابها المفتوح مع إسرائيل رداً على اغتيال القائد شكر وآخرين من قادة المقاومة، وجبهة الإسناد التي يبقى مصيرها رهن استمرار العدوان على غزة.

ثالثاً: قدّم السيد نصرالله التزاماً قاطعاً بأن الرد على الاغتيال، سيكون متناسباً مع الحدث نفسه، مقدّماً مواصفات وعناوين، وهي تسمح لأي مراقب بتوقع رد يثير غضب العدو أكثر مما يريحه. وهو أمر يقود إلى احتمال كبير لاندلاع مواجهة، قد يُطلق عليها «أيام قتالية» أو ما هو أكثر، علماً أن لدى المقاومة، مؤشرات ميدانية إلى ان العدو يستعد لهذا الاحتمال بقوة.

وبحسب معلومات «الأخبار»، فإن مواقف نصرالله أمس اتخذت بعداً جديداً، يجعل ملف لبنان مع العدو منفصلاً في قسم كبير منه عن ملف غزة مع العدو. بمعنى أن أي فرصة لإعلان اتفاق على وقف النار في غزة الآن أو غداً أو في أي وقت قريب، سينسحب ذلك على جبهة الإسناد. لكن أي اتفاق حول غزة لن يكون كابحاً أو مانعاً لتنفيذ حزب الله رده على اغتيال شكر، ولو تسبّب ذلك بحرب منفصلة بين لبنان والعدو.

وما جرى تداوله خلال الساعات القليلة الماضية ركّز على أن حزب الله، لم يعد يجد نفعاً في كل الاتصالات السياسية الجارية الآن، وهو غير مستعدّ على الإطلاق للدخول في أي حوار أو تفاوض حول الحدود البرية أو غيرها من الترتيبات على الأرض، قبل حصول أمرين متلازمين، الأول يتعلق بتوقف العدوان على غزة، والثاني تحقق الثأر وتدفيع العدو ثمن جرائمه، عبر عقاب مباشر، يردعه عن تكرار ما قام به. وحتى حصول ذلك، من غير المجدي أن يعاود الوسطاء، من داخل لبنان أو خارجه، السعي لإقناع حزب الله بأي خطوة سياسية أو ميدانية مختلفة. وهو ما يعطي المعنى الدقيق لرسالة حزب الله إلى جميع الموفدين: لا كلام خارج الميدان!

وفي ما خصّ الميدان، صار واضحاً لقيادة المقاومة في لبنان أن الرد على الاغتيال، وعلى ما سبقه أو يليه من عمليات مشابهة، لا يمكن أن يكون عادياً على الإطلاق، وتحسب المقاومة حساباتها على هذا الأساس، بما في ذلك، محاولة العدو رفع سقف المواجهة نحو حرب شاملة. وعندها، فإن التماثل سيكون حاضراً، لأن ما لم يدركه العدو أولاً، والوسطاء ثانياً، والمراقبون ثالثاً، أن المقاومة في لبنان لا تريد منح العدو أي صورة انتصار مهما كانت النتيجة.