استمعت صحيفة "الأخبار" إلى آراء ثلاث جهات معنية بالمفاوضات الجارية حول غزة، وأمكن بناءً على تفاصيل كثيرة، تقديم العرض التالي، حول ما حصل، وحول ما يفكر به الوسطاء وما تفكر به المقاومة، وما هو متوقّع من قبل قيادة العدو.
يبدو أن الجميع بات يقر، بأن العملية العسكرية الإسرائيلية لم تحقق هدفها في كسر ظهر المقاومة، بل هناك إجماع عند كل من له علاقة بالملف، أن حماس على وجه التحديد، لم تخسر المعركة العسكرية، بل إن كل الوقائع والمعطيات المجمّعة لدى حكومة وأجهزة استخبارات عالمية وإقليمية، تقول بأن الوضع العسكري لحماس جيد ومتماسك، وآيل إلى التكيف أكثر مع متطلبات المرحلة. كما يجمع هؤلاء، على أن شعبية الحركة التي كانت قد تضررت كثيراً في السنوات السابقة، عادت لتظهر على شكل التفاف أكبر من الجمهور، خصوصاً بعدما دفع الغزيون الثمن الكبير حتى الآن، وحيث ينعكس الأمر، تصلباً أكبر لدى شريحة كبيرة من الجمهور التي لا تريد للحرب أن تنتهي بمشهد تريده إسرائيل. ويقر الجميع بأن قدرة حماس على إعادة تنظيم أوضاع تشكيلاتها المدنية عالية جداً، وأظهرت مرونة عالية في العمل، وإسرائيل هي أول من يقول، بأنه في حال وقف إطلاق النار، فإن قدرة حماس على إعادة الإمساك بمفاصل الإدارة المدنية، عالية جداً.
وبناءً على ذلك، تراهن إسرائيل بقوة على تعب الناس. وهي تعتقد أن الحرب قاسية، وأن الجمهور وإن أطلق خطاباً مرتفع السقف، لكنه جمهور يريد وقف الحرب. ولذلك، فإن العدو، يلجأ صراحة، وجهاراً إلى ابتزاز سكان القطاع عبر ملف المساعدات، والقول لأبناء غزة، بأن الدعم الإنساني لن يعرف طريقاً إليهم في حال ظلوا يساعدون حماس. وقد كثّفت أجهزة استخبارات العدو، بالتعاون مع فريق "منسق أنشطة الاحتلال" غسان عليان، من الجهود لإقناع شخصيات وعائلات غزية بالتعاون من باب المساعدات الإنسانية. ويبدو أنه بات بالإمكان الحديث، عن حصول "أمور مريبة" في هذا الجانب، حيث عمدت قوات الاحتلال، في بعض مناطق شمال القطاع، إلى عقد اجتماعات (بالواسطة) مع عدد من الأفراد، وزودتهم حتى بالسلاح لمواجهة أي قمع يمكن أن يتعرضوا له من قبل حماس. ومع ذلك، فإن الأميركيين الذين تم إطلاعهم على هذه الخطوات، قالوا في اجتماعات القاهرة، إنهم لا يعتقدون بأن هذه المجموعات قادرة على القيام بانتفاضة جدية ضد حماس، بل إن ضباط المخابرات العامة في مصر، قالوا، بأن هذه المجموعات يمكن لها أن تختفي في دقائق لو قررت حماس التخلص منها. ومن الخطأ المراهنة على هذا الخيار، وأن إسرائيل تخطئ في قراءة تصرفات حماس حيال هؤلاء، فهي تتجاهل أن الحركة، ليست في وارد الدخول في صدام مع أحد الآن. وهي لن تعرقل إمكانية حصول الناس على أي مساعدات. لكنّ المصريين كانوا حاسمين بأن حماس لن تقبل بأن يفرض الاحتلال سلطة بديلة، أو أن يشرّع وجود مجموعات تعمل بإمرته أو حتى بالتنسيق معه.
وبحسب مصادر فلسطينية في رام الله، فإن ضباط الاحتلال، ينسقون علناً مع أجهزة الأمن الفلسطينية، من أجل "خلق دائرة اتصال واسعة مع عائلات غزية بعينها، ومع رجال أعمال وشركات محلية"، وأن الهدف، هو "تشكيل نواة لسلطة بديلة". وهو أمر تعززه معطيات لدى الجهات المعنية، بأن العدو يمعن في إضعاف مؤسسات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، لأجل حصر ملف المساعدات بالجماعات التابعة له وبسلطة رام الله. وكل هذه التطورات، تجعل الوسطاء في "خشية كبيرة، من أن تدبّ الفوضى العارمة في القطاع، وأن ينجح الاحتلال في افتعال صدامات أهلية داخل القطاع".
وتشير الرواية المجمعة، إلى أن هذا العنصر يُعتبر أساسياً في هذه اللحظة، كون الوسطاء باتوا على قناعة بأنه ليس هناك من تغيير حقيقي في جوهر مواقف الطرفين: إسرائيل تريد حلاً يسمح لها بتفكيك حماس عسكرياً وسياسياً وحتى مدنياً. وتريد أن تفرض صفقة يُطلق من خلالها سراح أسراها مقابل ثمن تقرره هي. وفي المقابل، تريد حماس وقفاً دائماً وواضحاً لإطلاق النار، مع انسحاب لكل قوات الاحتلال. وتصر حماس أيضاً على وضع ملف المساعدات كعنوان ثانٍ، أما تبادل الأسرى فهو في المرتبة الأخيرة. وكل الوسطاء يعرفون أن "حماس" لن تقبل بتبادل الأسرى ما لم تحصل على وقف دائم للحرب وإدخال المساعدات وبدء الإعمار.
"الإبداع" واليوم التالي
يجمع الوسطاء على وصف مواقف الطرفين بالـ"المتصلبة"، ومع وجود تباين في تقييم مواقف كل طرف، إلا أن الوسطاء، يظهرون رغبة في تحميل طرفي النزاع المسؤولية عن عدم حصول تقدم، علماً أن المصريين والقطريين، قالوا أكثر من مرة للجانب الأميركي، بأن حماس "أظهرت مرونة واضحة مقابل تصلب إضافي من جانب إسرائيل". لكن الجميع، يتفق على خلاصة أولية، تقول بأن الصفقة قد لا تتم من دون إطلاق النقاش حول اليوم التالي. وقد وافق الجانب الأميركي الوسيطين المصري والقطري، على أنه يجب إقناع إسرائيل بالدخول في هذا البحث، مع خطوة إضافية قامت بها قطر، إذ أبلغت إلى الجانبين المصري والأميركي، بأنها "حصلت على تقييم مشترك من جانب حركة حماس وحزب الله أيضاً، بأن نتنياهو لا يريد إقرار الصفقة، لأنه لا يملك أي قدرة على التحكم باليوم التالي. وهذا ما يجعلنا أكثر خشية من تصاعد التوتر على الجبهة اللبنانية، وأن هناك أرضية واقعية لاحتمال توسع الحرب صوب لبنان".
عملياً، يقول الرواة، إنه في ظل "عدم توفر مؤشرات إلى استعداد أي من الطرفين لتقديم تنازلات كبرى، فإن الأعين تتجه مرة جديدة نحو الميدان، لكن المفارقة هي أن الميدان نفسه، يواجه عقدة من نوع مختلف. وهي عقدة التوازن العسكري القائم، حيث لم تنجح إسرائيل في كسر المقاومة. بينما لا تقدر المقاومة على كسر إرادة الحرب عند إسرائيل". وعند هذه النقطة، يُنقل عن أحد الوسطاء البارزين قوله: "قد يكون الأفضل لنا جميعاً، أن نجمّد البحث لبعض الوقت، حتى لا تكون نتيجة الاستمرار بالتفاوض سلبية".
يلجأ العاملون في عالم الوساطات، إلى مصطلح "الحل الإبداعي"، في كل مرة تصل فيه المفاوضات إلى طريق مسدود. وفي حالة غزة، يجد الوسطاء أنفسهم أمام تحدي "الحل الإبداعي". ويقول أحدهم: "كل ما نقوم به الآن، هو محاولة صياغة عبارات أو استخدام مصطلحات بطريقة تساعدنا على الاحتيال على الوقائع، بغية كسر الجمود القائم، وأن الحل الإبداعي يحتاج إلى مصطلحات وعبارات إبداعية أيضاً". لكن الوسيط إياه يستدرك قائلاً: "ومع ذلك، فإن الوصول إلى اتفاق على قاعدة "المصطلحات الإبداعية" لا يكفي، لأن غياب التفاهم على اليوم التالي، يعرّض أي اتفاق لانتكاسة تدمره فوراً، وتوسع الهوة بين الطرفين، وتصعّب مهمة الوسطاء في أي محاولة جديدة. ولذلك يجب فهم، أن تردد الوسطاء الذي يظهر في بعض الأحيان، سببه الخشية من الذهاب نحو "اتفاق بأي ثمن" ثم يكون الانهيار الذي لا يمكن لأحد بعده ضبطه".
ويوافق مصدر فلسطيني على أن سؤال "اليوم التالي" بات مطروحاً بقوة. لكنه يحذر من أن مناقشته وفق الأولويات الإسرائيلية تعني المراوحة، حتى في ملف المساعدات وإدارتها، ولو أظهرت استعدادها لتقديم تنازلات في هذا العنوان، إلا أنها تفعل ذلك، وهي تعرف أنه لا توجد جهوزية لوجستية عند أي جهة لإدارة عملية بهذا الحجم. وفي حال تعثر ملف المساعدات، من شأنه تعريض أي اتفاق لوقف إطلاق النار لخطر الانهيار السريع، لأن المساعدات ملف أساسي عند حماس".
وفي هذا الجانب، قد يكون الوسيط المصري هو الأكثر حماسة للبحث في ملف "اليوم التالي"، وبحسب مقاربة مصر، التي لا يرفضها بقية الوسطاء، فإن "أي اتفاق على وقف لإطلاق النار، يحتاج إلى تسوية سياسية حتى يتحول إلى مستوى وقف كامل للحرب". ويقول إن "الولايات المتحدة تركز على صورة حماس ودورها في اليوم التالي، وترى أنه عنوان أساسي في أي بحث جدي، برغم وجود الكثير من الأفكار حول كيفية العودة التدريجية للحياة في غزة. لكن المهم، معرفة موقف حماس، من خطط تتعلق بتفعيل عمل الشرطة المحلية، وتشغيل خدمات الكهرباء والمياه وفتح الطرقات". وفي هذه النقطة، تبدو الولايات المتحدة "غير مقتنعة بعد" في إقناع إسرائيل بالدخول في بحث "اليوم التالي". وهو ما جعل كلاً من قطر ومصر تطرحان السؤال بطريقة مختلفة: أي حكومة يمكن أن تقبل بها إسرائيل ولا ترفضها حماس؟
يبدو من كواليس المفاوضات، أن هذا العنوان بات "المخرج الوحيد لجسر الهوة بين الطرفين. ويقر الوسطاء، بأن مرونة وانفتاح حماس، يقابلهما تصلب إسرائيلي. وتفسير الوسطاء، أن نتنياهو لا يعرض صراحة تصوره لحكومة ما بعد الحرب، لكنه يريد جماعة تخضع لإسرائيل!".