مطلع العام 2022، وبعدما كان الانهيار قد "قصف" السنة الثانية من عمر الاقتصاد، قطع أحد المسؤولين الطريق على تذمّر إعلاميين من الوضع، قائلاً: "دوام الحال من المحال".
اليوم، وبعد مضي عامين على جرعة التفاؤل، لا يزال كلّ شيء على حاله: ضياعٌ، يتغذّى من تمييع للإصلاحات، و"الرقص على حبل" القوانين. وما نشهده من مناقشات عقيمة في الصالونات، واصطفافاً شعبوياً في الشوارع بين المالكين والمستأجرين، وبين المصرفيين والمودعين، وبين مؤيّدي صندوق النقد ومعارضيه، وبين المدارس والمعلّمين... انسحب على هيئة الأسواق المالية.
صباح اليوم العاشر من كانون الثاني، كانت المهلة النهائية التي عيّنها رئيس هيئة الأسواق المالية، حاكم المصرف المركزي بالإنابة، وسيم منصوري، لموظّفي الهيئة لتقديم استقالاتهم طوعاً، وأخذ تعويضاتهم. ومن يرفض، يوضع بالاستيداع لدى مصرف لبنان بانتظار إيجاد الحلّ. ولكن هذا ما لم يحصل. فالمجلس الإداري للهيئة برئاسة الحاكم، قرّر يوم أمس، تمديد المهلة لغاية نهاية الشهر، من دون صدور أيّ بيان رسمي يعلّل القرار، أو يوضح الأهداف التي دفعت لاتخاذه.
الطعن بالقرار
يهدف تمديد المهل إلى إعطاء الجهة المستفيدة المزيد من الوقت لتنظيم أمورها. وعادةً يترافق مثل هذا الاجراء مع حدوث طارئ ما، أو ما هو خارج عن الإرادة من تعطّل للعمل أو إقفال أو خلافه من الحالات التي تعوق إتمام المهمة. إلّا أنّ هذا التدبير الشكلي لا ينطبق على واقع الهيئة. فالمهلة التي أعطيت للموظّفين تقارب الشهر. وهي لا تضمّ أكثر من 50 موظفاً يمكن تنظيم استقالاتهم في يوم عمل واحد. فما الذي دفع، حقيقة، لاتّخاذ القرار؟
تفيد أوساط مطّلعة بأن القرار بإقفال الهيئة إلى حين من خلال تسريح الموظفين، بحجّة فقدانها للتمويل، كان متسرّعاً. ولم يكن من المتوقّع أن يلاقي القرار اعتراضاً قانونياً صارماً يشكّل نكسة لآلية العمل الجديدة التي يحاول أن يرسيها الحاكم بالإنابة في سدّة المركزي. وبحسب ما عُلم، فإنّ المحامي المتخصّص في القانون الإداري الدكتور باسكال ضاهر قد حضّر طعناً بالقرار، ليُقدّم أمام مجلس شورى الدولة، بتكليف من أعضاء من مجلس إدارة هيئة الأسواق المالية. وقد ارتكز الطعن على "تفلّت القرار، ومخالفته القانون إلى حدّ كبير وكبير جداً".
تفيد أوساط مطّلعة بأن القرار بإقفال الهيئة إلى حين من خلال تسريح الموظفين، بحجّة فقدانها للتمويل، كان متسرّعاً.
مخالفات بالجملة لقانون "الهيئة"
القرار الذي قضى بالتوقيف الإداري المؤقّت لهيئة الأسواق المالية، الموقّع من رئيسها وسيم منصوري، والمتّخذ في مجلس إدارة هيئة الأسواق المالية، "نعيب عليه الكثير من المخالفات في الشكل وفي الجوهر"، تقول الأستاذة الجامعية والباحثة القانونية الدكتورة سابين الكيك. "فمن حيث الشكل، هناك مخالفات كبيرة لأصول اتخاذ القرارات التنظيمية الإدارية". أمّا الأهمّ في أساس وجوهر القرار، فهو أنّ هيئة الأسواق المالية هي شخص من أشخاص القانون العام تتمتّع بالشخصية المعنوية، والاستقلالية. وهي منشأة بموجب قانون، ( القانون 161/ 2011). وعليه "لا يجوز لأحد أن يلغي وجودها، إلّا بقانون يعدّل أحكام قانون إنشائها"، تضيف الكيك. "وفي الأساس أيضاً، لم يعطِ القانون 161 مجلس هيئة الأسواق هذه المهمّة، التي هي صلاحية موصوفة، ولا يجوز أن تستنتج، من قبل هذا المجلس. أضف إلى أنّ هذه الهيئة، بما تتمتّع به من استقلالية، يجب أن تخضع في أصولها وفي تصفيتها إلى أصول خاصّة. وتالياً، نسأل اليوم: ما الهدف من وراء توقيف العمل المؤقّت. خصوصاً أنّ القرار الذي قضى بتوقيف العمل المؤقّت ارتبط بقرار وقف كلّ العلاقة مع المستخدمين والعاملين في هيئة الأسواق المالية، ودفع تعويضاتهم تحت طائلة اعتبارهم مستقيلين حكماً، هذا أوّلاً. وثانياً، فإنّ تصفية كلّ أعمال الهيئة تطرح سؤالاً عن الجهة التي ستنظّم القانون وتنفّذه على المؤسسات التي يشملها والتي ستستمر بطبيعة الحال. مع التأكيد أنّه ليس من صلاحية مجلس إدارتها اتّخاذ قرار تصفية شخص من أشخاص القانون العام وفق مبدأ استمرارية عمل المرافق العامّة. لأن هيئة الأسواق المالية هي هيئة ناظمة للأسواق المالية في لبنان. وعليه، فإنّ مفاعيل هذا القرار لا تتوقّف فقط عند حدود إلغاء الهيئة ووجودها بحجّة عدم التمويل، مع العلم أنّه يفترض أن يكون لها مصادر تمويل خاصة، والدولة ليست ملزمة بتمويلها، إنّما لخضوعها لاستئثار أشخاص".
مصير الإصلاحات
ما يجري، اليوم، في هيئة الأسواق المالية، يتعارض مع أبسط قواعد الإصلاح للخروج من الأزمة التي طالبت بها وشدّدت عليها الجهات الدولية، وفي مقدّمِها البنك الدولي وصندوق النقد. والبيانات التي لم تكن تخلو من التشديد على ضرورة إنشاء الهيئة الناظمة للكهرباء والاتصالات والطيران، سيُضاف إليها، في المستقبل القريب، ضرورة إعادة تفعيل الهيئة الناظمة للأسواق المالية، والتنبيه إلى مخاطر تفلّت الأسواق وازدياد معدّلات الاحتيال والغش وتبييض الأموال. "فها نحن نعود بالأدراج إلى الوراء"، تقول الكيك. و"قد كنّا نطمح، مع خروج رياض سلامة، إلى تفعيل العمل المؤسساتي ودعم عمل الهيئات الرقابية والمالية، وإتمام الفصل بين مهام الحاكمية ورئاسة هيئة الأسواق المالية، وتعديل قانون النقد والتسليف باتجاه قواعد الحوكمة الرشيدة".
لا رجوع عن القرار
تعليق القرار لا يعني الرّجوع عنه. والمهلة التي أعطيت لموظّفي الهيئة لا تزال قائمة، حتّى لو جرى تأخيرها. "لذلك، فإن الطعن واجب لإزالة القرار من كتلة المشروعية"، بحسب ما تؤكد المصادر المُتابعة.
إذاً، ستأخذ الآلية القانونية مداها من النقاشات في الأيام المقبلة. وستنضم إلى نظيراتها من الدعاوى القانونية التي أصبح من المنهك تعدادها. وقد نعود لنفتح الملفّ بعد عام، عامين، ثلاثة... ونتذكّر باستهزاء أنّ دوام الحال في لبنان ليس من المحال. أقلّه ما دامت الطغمة السياسية تتوالد على الدوام من رحم الأزمات.