فُتحت ستارة الفصل الرابع والأخير من العام 2023 على عملية "طوفان الأقصى"، ودخول لبنان من جنوبه كـ "مشاغل" للعدوّ الإسرائيلي. إلّا أنّ هذه الحرب التي تبدو من دون نهاية، حتّى كتابة هذه السطور، أرخت بثقلها على الاقتصاد اللبناني بشكل مباشر وغير مباشر. وبالإضافة إلى حالة عدم اليقين الأمنية، زادت مؤشّرات عديدة الانهيار الاقتصادي "بلّة"، وهذه أبرزها:
تشرين الأول، لا غاز ولا نفط
لم تطل الفترة عقب إعلان "الكونسورتيوم" المنقّب عن تغيير مكان الحفر، حتّى تمّ الإعلان عن عدم تضمّن البئر في الرقعة البحرية التاسعة أيّ موارد نفطية. فأقفل البئر الاستكشافي وغادرت الحفارة TransOcean Barents المياه الإقليمية، وعُلّق الملف النفطي برمّته على فتح دورة تراخيص جديدة للتنقيب، في بقية البلوكات، ولاسيّما منها البوك رقم 10. وعلى الرّغم من أنّ عملية الحفر في حقل قانا هي استكشافية، غير مضمونة النتائج، فإنّ ترافق الإعلان مع التطوّرات العسكرية في فلسطين المحتلّة وجنوب لبنان، وضع النتيجة السلبية في خانة الضغط السياسي على لبنان. وفعّل عند اللبنانيين "نظرية المؤامرة". خصوصاً بعد الآمال الكبيرة التي بنيت على هذا الحقل المحاذي لحقل كاريش في المياه الإقليمية لفلسطين المحتلّة الزاخر بالموارد النفطية.
خيبة الأمل النفطية "طُمرت" سريعاً، فوق "أطنان" الخسائر التي بدأ يتكبّدها الاقتصاد اللبناني مع مرور الأسبوع الثّاني على الحرب الإسرائيلية. فتراجعت مع نهاية تشرين الأول حركة القدوم إلى لبنان بأكثر من 20 في المئة، وألغت المجموعات السياحية من الدول الاوروبية حجوزاتها، وهوى الإشغال الفندقي إلى ما بين 5 و10 في المئة وشُلّت الحركة التجارية، ولاسيما في المناطق الجنوبية. وانخفض إنفاق اللبنانيين على الترفيه والكماليات، فيما شهدت المحال التجارية حالات تبضّع كبيرة للمواد الغذائية، تحسّبا من انقطاعها في ما لو طالت الحرب وتوسّعت إلى كلّ لبنان.
تشرين الثاني السيوف الحديدية تثخن جراح الاقتصاد
البرودة القاسية التي تميّز بها هذا الشهر على صعيد مختلف الملفّات الداخلية، قابلها إثخان عملية "السيوف الحديدية" التي يقودها الجيش الإسرائيلي بحقّ غزة، جراح الاقتصاد اللبناني. وازدادت في هذا الشهر الخشية من انعكاس الحرب على المؤشّرات الاقتصادية الهشّة وتكبّد لبنان خسائر هائلة، خصوصاً في ظلّ اتّساع الفجوة بين النّاتج المحلّي والنّاتج المحتمل تحقيقه، والتي تصل إلى 70 في المئة. وارتفاع معدّل التضخّم إلى حدود 250 في المئة، وزيادة معدّلات الفقر والبطالة عن 80 و30 في المئة على التوالي، وارتفاع المخاوف من تآكل سعر صرف العملة الوطنية والقدرة الشرائية. وتراجع الحركة السياحية إلى معدّلاتها الأدنى بعدما شهدت إقبالاً كثيفاً خلال أشهر الصيف. وفقدان الفنادق والمطاعم وشركات تأجير السيارات وكلّ المرافق المرتبطة بشكل مباشر وغير مباشر بالسياحة موردها الأساسي. حتّى أنّ العديد من المؤسسات العريقة سرّحت موظفيها وأقفلت أبوابها وتحوّلت إلى موسمية.
الإيجابية الوحيدة التي سجلها تشرين الثاني، كانت تعديل التعميم 158، الذي يتيح أمام المودعين سحب ما بين 300 و400 دولار (فريش) شهرياً، من حساباتهم الموقوفة في المصارف التجارية. فجرى توسيع التعميم ليشمل كلّ من حوّل وديعته الدولارية من مصرف إلى آخر عقب الانهيار، وبشرط ألّا يكون قد طُبّق عليها التعميم 151.
وشهد تشرين الثاني إصدار مصرف لبنان ورقة نقدية من فئة المئة ألف ليرة بحلّة جديدة، أصغر من سابقتها.
كما افتتح العام 2023 على انتهاء اللجان المشتركة دراسة الكابيتال كونترول، وتجهيزه للإقرار، اختتم بعودة القانون إلى كنفها
كانون الاول، ولادة الصندوق السيادي والمعاش التقاعدي وعود على بدء الكابيتال كونترول
كان كانون الأول شهر الأعياد والعطل والمناسبات، ليمرّ من دون أثر يذكر لولا توسّطه جلسة تشريعية لمجلس النواب، أقرّت على هامش التمديد لقائد الجيش، جملة من القوانين التاريخية المعلّقة منذ أكثر من عقدين، وأخرى مستقبلية معدّة لعشرين عاما للأمام، وقوانين للقروض بمئات الملايين من الدولارات وقوانين جدلية. فيما أسقط قانون الكابيتال كونترول وأعيد إلى اللجان المشتركة للمزيد من الدرس!
قبل انتهاء العام المليء بالخيبات، شكّل إقرار قانون استبدال نظام تعويضات نهاية الخدمة من الضمان الاجتماعي، بنظام معاشات تقاعديّة بارقة أمل حقيقية بالنسبة للمضمونين. حيث ينصّ القانون الجديد على إمكانية تحويل تعويض نهاية الخدمة إلى راتب تقاعدي بشكل اختياري. وتُحتسب استحقاقات التقاعد الجديدة على أساس مبلَغَين من مبالغ الحدّ الأدنى المشمولة في الضمان: أولاً 80 في المئة من الحدّ الأدنى للأجور بعد 30 سنة من المساهمة، وثانيًا 1.33 في المئة عن كلّ سنة من متوسّط أجر المؤمّن عليه بعد إعادة تقييمه. والجدير ذكره أنّ مشروع هذا القانون ظلّ موجودا في أدراج مجلس النواب منذ العام 2004.
بالتوازي مع إقرار هذا القانون التاريخي، أقرّ البرلمان أيضاً قانون الصندوق السيادي. وهو القانون الذي توضع فيه العوائد النفطية للاستثمار (75 في المئة) والتنمية (25 في المئة). ذلك مع العلم أنّ الإيرادات من النفط والغاز لن تبدأ قبل الاستخراج الذي قد يطول عن عشرة أعوام. هذا إن تضمّن بحرنا هذه الثروة المأمولة!
من القوانين المهمّة التي جرى إقرارها أيضاً كان قانون تحرير الإيجارات القديمة غير السكنية في مهلة عشرة أعوام، وآخر يتعلّق بتعديل موازنات المدارس الخاصة ومساهمة الدولة في صندوق تعويضات اساتذتها بـ 650 مليار ليرة. إلّا أنّ القوانين الثلاثة علّقت بطلب من رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ولم تنشر في الجريدة الرسمية بعد تدخّلات من أعلى المرجعيات الدينية والتجارية. وقرّر الرئيس ميقاتي طرح القرار المتّصل بإصدار هذه القوانين مجدّداً، على أول جلسة لمجلس الوزراء للبحث في الخيارات الدستورية المُتاحة في شأنها.
بالإضافة إلى سلّة القوانين المشرّعة، فقد تميّز كانون الأول بإلغاء حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري لمنصّة صيرفة. وبالتّالي الغاء السّعر المدعوم الذي يقلّ بنحو 5 في المئة عن سعر السوق والمعتمد أساساً لتسديد رواتب الموظّفين وتسعيرة الكهرباء والاتصالات وبقية الخدمات.
وقبل أن يقفل العام 2023، غير مأسوف عليه، فتحت هيئة الأسواق المالية، باب الاستقالة الاختيارية أمام موظّفيها الذين لا يتجاوز عددهم الخمسين. ومن لا يرغب يوضع بالاستيداع إلى حين في مصرف لبنان، وذلك تمهيداً لإلغاء دورها (إقفالها يجب أن يكون بقانون) بعد فقدانها عنصر التمويل وعدم كفاية مواردها المالية. وهكذا يختتم لبنان العام بإقفال هيئة رقابية كانت الأولى بين الدول العربية، وتعتبر بالغة الأهمية لرقابة الأسواق المالية وحماية المستثمرين من الاحتيال والغش.
كما افتتح العام 2023 على انتهاء اللجان المشتركة دراسة الكابيتال كونترول، وتجهيزه للإقرار، اختتم بعودة القانون إلى كنفها. وبين أول العام ونهايته استمرّت المشاكل وتضاعف سعر الصرف، ولم يملأ الشغور الرئاسي. ولعلّ الأخطر تسليم لبنان في العام القادم إلى موازنة تضخّمية مليئة بالضرائب والرسوم ومن دون أي أفق اقتصادي إصلاحي. وبدلاً من أن يهيئ العام 2023 الأرضية الإصلاحية لخلفه، أهداه قفزة في المجهول.