وصل لبنان أخيراً، إلى "واحة" نظام التقاعد والحماية الاجتماعية، بعدما لاحق "سرابه" سنوات طويلة. القانون الذي أعدّ قبل عقدين من الزمن، أقرّه البرلمان بـ "فلتة" تشريعية في زمن الفراغ الرئاسي والقحط السياسي. فمرّ مع مجموعة من القوانين، "في ظلال" رفع سنّ التقاعد عاماً كاملاً لقادة الأجهزة الأمنية، ليصبح "واحداً من أهمّ الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدها لبنان خلال ثلاثين عاماً"، بشهادة منظّمة العمل الدولية.

يهدف القانون بشكل أساسي إلى استبدال نظام تعويضات نهاية الخدمة من الضمان الاجتماعي، بنظام معاشات تقاعديّة حديث. حتّى الأمس القريب وقبل الانهيار الاقتصادي، ظلّ نظام تعويضات نهاية الخدمة عاجزاً عن توفير الحماية في سنّ الشيخوخة. فمن يخرج على سنّ التقاعد من العمال والموظفين المضمونين، كان يحصل على تعويض مالي. يُحتسب التعويض على أساس سنوات العمل، مضروباً بآخر راتب مسجّل في الضمان الاجتماعي. وكانت تُنزع عن المتقاعد التغطية الصحّية والاستشفائية، إلّا إذا انتسب للضمان الاختياري، الذي لم يكن متوفّرا بشكل متواصل، وكان بقدرة استيعابية محدّدة. التعويضات التي كانت مقبولة نسبياً، خسرت 98 في المئة من قيمتها بشكل تدريجي بعد العام 2019. حيث أصبح التعويض بقيمة 30 مليون ليرة، أو 20 ألف دولار على سعر الصرف القديم، لا يساوي 300 دولار اليوم. الأمر الذي ترك المؤمَّن عليهم معدومي الدخل، وأرغم الكثيرين على مواصلة العمل حتّى الشيخوخة.

يهدف القانون بشكل أساسي إلى استبدال نظام تعويضات نهاية الخدمة من الضمان الاجتماعي، بنظام معاشات تقاعديّة حديث

كيفية احتساب راتب التقاعد؟

ينصّ القانون الجديد على إمكانية تحويل تعويض نهاية الخدمة إلى راتب تقاعدي بشكل اختياري. وتُحتسب استحقاقات التقاعد الجديدة على أساس مبلَغَين من مبالغ الحدّ الأدنى المشمولة في الضمان: أوّلاً 80 في المائة من الحدّ الأدنى للأجور بعد 30 سنة من المساهمة، وثانيًا 1.33 في المائة عن كلّ سنة من متوسّط أجر المؤمّن عليه بعد إعادة تقييمه. وستُسدد الإعانات في حالة العجز، وسيتمّ تحويلها إلى الورثة في حالة وفاة المؤمّن عليه أو صاحب المعاش. وستُربط قيم المعاشات التقاعديّة بمؤشّر التضخّم من خلال عملية تعديل سنوية. و"قد أتت هذه التعديلات، متناسبة مع السياق والواقع اللبناني الفريد من نوعه، ومتوافقة مع المعايير الدوليّة الأساسيّة"، بحسب رئيس لجنة الصحّة والعمل والشؤون الاجتماعية النيابية، النائب بلال العبدلله. "وهي تحقّق توازناً دقيقاً بين إعادة التوزيع والرسملة. ويُبسِّط إدارة الصندوق واستثماره، ممّا يضمن استدامة فوائده. وقد أخذ القانون بعين الاعتبار "ضمان استمرارية تقديمات الصندوق من خلال تمويل نفسه بنفسه، والقدرة على استثمار أموال المضمونين والأجراء والعمّال في لبنان وخارج لبنان، وبطريقة تضمن عدم ضياع الأموال كما ضاعت الأموال السابقة في سندات الخزينة"، بحسب العبدلله. "وذلك بإطار محمي، وضمن خبرات ومعايير عالية بانتقاء من سيأخذ القرار في هذه المسألة تحت إشراف مجلس إدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي".

تعديل قانون الضمان

بالإضافة إلى التعديلات الجوهرية على نظام تعويضات نهاية الخدمة والحماية الاجتماعية، يستحدث القانون باعتباره جانبًا رئيسيّاً من جوانب الإصلاح، هيكلًا إدارياً جديداً للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. حيث سيُستبدل مجلس الإدارة الحالي بمجلس أصغر يتكوَّن من عشرة أعضاء، أربعة يمثّلون العمّال، وأربعة يمثّلون أصحاب العمل واثنان يُمثّلان الحكومة. كما يشترط أن يكون ستة من الأعضاء خبراء متخصصين في مسائل الحماية الاجتماعية. وستتولّى الإشراف على الصناديق لجنة استثمار مستقلّة تتألّف من خبراء متخصصين، إلى جانب ذراع استثمارية متخصصة. وستُناط بالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مهمّة إنشاء نظام للدفع الإلكتروني للاشتراكات والإعانات، ومنصّة رقميّة تسمح للعمّال وأصحاب العمل بالوصول إلى المعلومات المتعلّقة بحقوقهم في الضمان الاجتماعي. وعليه "سيعمل النظام الجديد على تحسين رفاهية اللبنانيين الذين يبلغون سنّ التقاعد، وتعزيز التضامن الاجتماعي"، برأي كبير الاختصاصيين في الحماية الاجتماعية في منظّمة العمل الدولية، لوكا بيليرانو، "هو أمرٌ مهمٌّ للغاية للبنان في هذه الأيام، ليس فقط للحدّ من نقاط الضعف الاجتماعي، ولكن أيضًا لضمان حسن سير نظام الضمان الاجتماعي بأكمله. وينبغي أن يُشجِّع القانون الجديد أصحاب العمل على الإعلان عن الرواتب الكاملة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، والذي ستستفيد منه بدورها فروع النظام الأخرى - وأهمّها فرع التأمين الصحي". وكانت منظمة العمل الدولية قد قدَّمت دعمًا فنيّا واسع النطاق إلى اللجان البرلمانية ذات الصلة والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ومنظمات العمّال وأصحاب العمل في لبنان، للتوصل إلى توافقٍ في الآراء بشأن تصميم المخطّط ومعاييره وصياغة النصّ النهائي للتشريع الذي اعتمده مجلس النواب، وضمان مواءمته مع معايير العمل الدوليّة للضمان الاجتماعي.

واحد من أهمّ الإصلاحات، ولكن!

بمفارقة لا تتكرّر كثيراً، اتّفق جميع مكونات قوى الإنتاج، من الدولة وأرباب العمل وممثّلي العمال، على أنّ القانون يعدّ أحد أهمّ الإصلاحات الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي حققها لبنان في السنوات الثلاثين الماضية. و"لقد عملنا جاهدين على مراجعة قانون الضمان الاجتماعي مراجعة كاملةً، وذلك لضمان تقاعدٍ لائقٍ للشعب اللبناني". قال مدير عام الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي محمد كركي.

مع إقرار القانون متأخّراً عقوداً زمنية، بان تحدّ جديد يتعلّق بالقدرة على تنفيذ بنوده بنجاح وفي الوقت المناسب. فهل يبدأ تطبيق القانون أم ينضمّ إلى العشرات من أترابه الذين ينتظرون إصدار المراسيم التشريعية؟