لماذا الآن وبعد أربع سنوات من الانهيار قررت المصارف أن تربط النزاع مع الدّولة، وأين كانت خلال السنوات التي مضت؟
عادت المصارف لتسخّن الجبهة الاقتصادية الداخلية بعدما "سكبت" أحداث غزّة وجنوب لبنان "دلو ماء مثلج" على "ظهرها". فعقب مسارعتها رئاسة الحكومة برسالة رفض لمشروع قانون إعادة هيكلتها، تقدّمت قبل يومين من وزارة المالية بمذكّرة ربط نزاع. ومع هذا التطوّر تكون المصارف قد انتقلت لـ "الرقص" جهاراً في مواجهة الدّولة ومصرفها المركزي، بعدما كان أمين عامها السّابق مكرم صادر قد افتتح الحلبة "حنجلة" برسالته: "توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان: القصة الشائعة والحقيقية" في أوائل العام الماضي.
أن "تربط نزاعاً" يعني أن "تقدّم عريضة لاستدراج الإدارة المختصّة (وزارة المالية في حالتنا الراهنة) لاتّخاذ موقف قبل رفع الخلاف للقضاء". بحسب تعريف وشروط ربط النزاع التي تتضمّنها شورى حكم رقم: 78/1996. وتختلف مذكرة ربط النّزاع عن المراجعة الاسترحامية من حيث أنّها تشكّل مرحلة من مراحل الدعوى القضائية، لأنهّا تتضمّن كافّة المطالب التي تستدعي الجواب عليها. وهي تبين بالتّالي ما سيبنى عليه رفض الادارة من نتائج قانونية". وعلى هذا الأساس القانوني تقدّم أحد عشر مصرفاً تجارياًّ بوكالة المحاميين أكرم عازوري وإيلي اميل شمعون بمذكّرة ربط نزاع أمام وزارة المالية. والمصارف هي "اللبناني السويسري، اللبناني الفرنسي، الاعتماد اللبناني، البحر المتوسّط، بيبلوس، بنك بيروت، بيروت والبلاد العربية، عودة، لبنان والمهجر، فرنسبنك و بنك سيوسيتيه جنرال". وبحسب المذكّرة فإنّ المصارف المستدعية والتي تمثّل 70 في المئة من مجموع ودائع المصارف لدى مصرف لبنان، متضرّرة من عدم مطالبة الأخير الدّولة اللبنانية:
- بأن تسدّد له المبالغ التي استدانتها منه.
- بأن تغطّي كامل الخسائر التي تظهر في عجز ميزانيته بعد أن تمّ تصحيحها بموجب تقرير ألفاريز آند مارسال.
مطالبة الدّولة بما لا يقلّ عن 67.9 مليار دولار
أمّا من الناحية المالية، فتستند المذكّرة، باختصار، على استدانة الدولة اللبنانية بين العامين 2010 و2021 بشكل أساس أموال المودعين التي أودعتها المصارف في المركزي وأنفقتها، وهي تتمنّع عن ردها لمصرف لبنان. ولا تقلّ القيمة الإجمالية لهذه المبالغ عن 67.9 مليار دولار، موزّعة على الشكل التالي:
- 16523 مليون دولار، دين مستحقّ بذمّة الدّولة اللبنانية لمصرف لبنان بالعملة الأجنبية.
- 51302 مليون دولار خسائر ظاهرة في ميزانية المركزي.
- قيمة العجز الإضافي المترتّب عن سنتي 2021 و2022 بعد تصحيح ميزانية مصرف لبنان (غير محدّد).
وبما أنّ الدولة التزمت إعادة القروض البالغة 16.5 مليار دولار بنفس العملة، وبما أنّ المادة 113 من قانون النّقد والتسليف تفرض على الدّولة تغطية عجز المركزي البالغ تقريبا 51.3 مليار دولار، من الاحتياطي العام، فإنّ الدّولة ملزمة بردّ الأموال. وذلك لكي تتمكّن المصارف من الالتزام بموجباتها تجاه مودعيها.
من الواضح أنّ الدّولة برهنت خلال هذه الأزمة أنّها الحلقة الأضعف
مقدّمة لتهشيم الدولة
من حيث الشكل تطرح مذكرة ربط النزاع سؤال عن التوقيت الذي قدّمت فيه. فلماذا الآن وبعد أربع سنوات من الانهيار قررت المصارف أن تربط النزاع مع الدّولة، وأين كانت خلال السنوات التي مضت؟ سؤال يقود بحسب منسّق المرصد القانوني المحامي جاد طعمه إلى القول إنّ "مذكّرة ربط النزاع دائماً ما تكون تمهيداً للطعن بالقرار الإداري النافذ والضارّ أمام مجلس شورى الدولة. ومن بديهيات القانون أنّ الاعمال الحكومية لا تقبل الطعن امام مجلس شورى الدولة. وبالتالي، هل تكون هذه المذكّرة مجرد تحضير أجواء لإقرار قانون ما، بعد التهويل وذرّ الرماد في العيون، يحسم النقاش ويحمل الدّولة المسؤوليات. ومن الواضح أنّ الدّولة برهنت خلال هذه الأزمة أنّها الحلقة الأضعف. فما بين المصارف وجمعيتها ومصرف لبنان وحاكميته والدولة وأركانها شركاء المصارف تصبح الأخيرة هي الطّرف الأضعف الذي يحاول الكلّ تعليق فشله عليها".
المحاولات التي لا تنتهي لتحميل كلّ الخسائر للدولة يأتي بحسب طعمه عقب تحقيق المصارف الأرباح منذ اندلاع الأزمة، وعدم تكبّدها أيّ خسائر". وتكفي الإشارة من وجهة نظره إلى "كونها ما زالت مستمرة على الرغم من حجزها ودائع العملاء وفقدانها للثقة الائتمانية. لا بل أكثر من ذلك فأعطاها الحقّ للانطلاق من جديد بعمليات مصرفية وكأنّها لم تلحق ضرراً بعموم الشعب اللبناني". ولعلّ أكثر ما نخشاه اليوم هو تهشيم الدولة والإضرار بعموم المواطنين وذلك بالنّظر إلى أنّ المحاولة الأخيرة للمصارف تعتبر الأكثر جدية من وجهة نظر طعمه من أجل هضم حقوق المواطنين وإيجاد مناخ عام يقول إنّ على الدّولة أن تتحمّل مسؤولية جشع المصارف والمخالفات القانونية التي أقدمت عليها أساساً بالاستثمار في الديون البغيضة، أو عالية المخاطر. ما تسبّب بالأزمة التي نحن اليوم في صددها".
توزيع الخسائر إشكالية من دون حل
المطالب التي تقدّمت بها المصارف المستدعية بحسب المذكرة، "ليست المحاولة الأولى من نوعها، ولن تكون الأخيرة للدفاع عن حقوقها وحقوق مودعيها"، بحسب مصدر مصرفي. فـ"المصارف ألزمت منذ التسعينيات على توظيف النسبة الأكبر من ودائعها في مصرف لبنان. وهذا واضح جداً في الرسالة التفصيلية التي كتبها الدكتور مكرم صادر (الأمين العام السابق لجمعية المصارف) والتي تبيّن فرض المركزي توظيف 15 في المئة من الودائع إلزامياً. وحوالي 60 مليار دولار من خلال التعاميم الاجبارية وأخيراً ليس آخراً من خلال الاشتراط بعد العام 2016 شراء شهادات بالدولار من أجل تسييل شهادات إيداع الليرة، أو توظف الدولارات لديه بشكل ودائع طويلة الأجل." وبرأي المصدر "لم تنفع محاولات التصدّي، ومنها التي قادها فرنسوا باسيل قبل سنوات، ذلك أنّ المركزي هو السلطة الناظمة للقطاع بمجمله". أمّا عن تحميل المصارف المسؤولية كون التوظيفات عالية المخاطر، فيلفت المصدر إلى "أنّها كانت بضمانة الدولة خصوصاً إنّ المادة 113 تلزم المصرف بتسديد ديونه".
هذا النقاش على مسؤولية تحمّل الخسائر، يبدو من دون نهاية. وعلى الرّغم من احتكام المصارف إلى بنود قانونية للمطالبة بحقوقها، ومنها: المادة 113 من قانون النّقد والتسليف. واستنادها إلى المنطق القائل إنّ كلّ اللبنانيين استفادوا من دعم الليرة خلال السنوات الماضية من أموال المودعين، وعليهم بالتّالي واجب تحمّل المسؤولية من حصّتهم من الملك العام... فإنّ ما يغيب عن المشهد هو تحمّل المسؤولية. ولعلّ شعور اللبنانيين، أو بالأحرى تيقّنهم من مرور جريمة سرقة ودائعهم من دون حساب، وعدم تلمّسهم أيّ شعور بالندم عند المصرفيين، أو تغيير جدّي في إداراتها ومجالسها هو ما يدفعهم لرفض كلّ ما تتقدّم به. "وإن كان من منطلق لتقويم الأوضاع وإعادة الحقوق فيجب أن يبدأ بالمحاسبة عن كلّ المخالفات والتجاوزات والتهريبات لكلّ متورط في "سرقة" العصر، ومن بعدها لكلّ حادث حديث"، يقول لسان حال المواطنين.