مشروع الحوافز الذي يتوقّع أن يرتدّ سلباً على سعر الصرف، يحمل في طيّاته تمييزاً فاقعاً بين الموظّفين في القطاع العام وبينهم وبين الأجراء في القطاع الخاص...
بالتزامن مع إطفاء الأزمة اللبنانية شمعتها الرّابعة، وبدء السّلطة استعداداتها للاحتفال باليوبيل الخشبي للانهيار، ولد مشروع تحفيزي جديد للقطاع العام، مشوّهاً. المولود الجديد ليس بكراً، بل هو الثالث في ترتيب الزيادات الشرعيّة على رواتب الموظّفين، والرابع إذا ما أضفنا طفل صيرفة اللقيط. وفي حال قدّر له إطلاق "صرخة الحياة"، سيكون إضافة ثقيلة على عائلة الأوضاع المعيشية وانتظام الحياة العامّة. وذلك بالنّظر إلى ما يتضمّنه من أفخاخ، وما سيضيفه من أعباء متوقّعة على سعر الصرف والقيمة الشرائية للأجور... فلا نلبث أن نعود إلى نقطة البداية نفسها...
تكرّر السلطة منذ "غروب" الاستقرار في نهاية العام 2019، نفس السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وتتوقّع نتيجة مختلفة. أربع سنوات من الحلول "الترقيعية" أفنت الموظفين، بانهيار القيمة الشرائية لمداخيلهم، ولم تقتل ذئب الإفساد.
الزيادات السّابقة على رواتب موظّفي القطاع العام
البداية كانت مع مراسيم 28 كانون الثاني الرئاسية، التي أعطت زيادة على رواتب موظّفي القطاع العام على شكل مساعدات اجتماعية ومنح تعليمية، ورفعت بدل النقل إلى 64 ألف ليرة. تبعها إقرار مضاعفة الرواتب ثلاث مرات في موازنة 2022. ومن ثم مضاعفتها 4 مرات إضافية في نيسان 2022 ليصبح مجموع ما يتقاضاه الموظفين 7 رواتب. وتمّ رفع بدل النّقل بصورة استثنائية 450 ألف ليرة عن كلّ يوم حضور فعلي للسلك الإداري. وطيلة هذه المدة كان الموظفون يحولون رواتبهم إلى الدولار على سعر مدعوم للدولار، أي على سعر منصة صيرفة، تبعاً للتعميم 161 الصادر عن مصرف لبنان في كانون الأول 2021.
حوافز جديدة...
الزيادات هذه مجتمعة لم ترفع متوسّط رواتب موظّفي القطاع العام إلى أكثر من عشرة ملايين ليرة، تعادل 110 دولار بسعر صرف اليوم الحاضر. وكانت من الأسباب الأساسية لانهيار سعر الصّرف، نظراً لكلفتها التي تتجاوز 7000 مليار ليرة (حوالي 70 مليون دولار). وتمويلها قبل دولرة الضرائب والرسوم الجمركية من طباعة الأموال في مصرف لبنان. وعليه كانت القيمة الشرائية لرواتب الموظّفين تنخفض أكثر مع كلّ زيادة، وتؤدّي إلى تمديد الإضراب العام، والذي بدوره يعطّل الدّولة ويفوّت على الخزينة آلاف مليارات الليرات.
على الرغم من هذا الواقع المُعاش أصدر مجلس الوزراء مشروع مرسوم جديد يقضي بإعطاء حوافز مالية لموظّفي القطاع العام ممّن لا يستفيدوا من مساعدات اجتماعية بالدولار كالأساتذة على سبيل المثال. وتتراوح قيمة الحوافز بين مليون و600 ألف ليرة عن كلّ يوم حضور فعلي لموظّفي الفئة الخامسة، وترتفع تدريجياً بحسب الفئات، لتصل إلى مليونين و400 ألف ليرة لموظّفي الفئة الأولى ومليونين و800 ألف ليرة لموظّفي الهيئات الرّقابية. مشروع المرسوم هذا، ينتظر إبداء مجلس شورى الدولة الرّأي فيه، ليصار من بعدها إلى إقراره سريعاً خلال الأسبوع الحالي، بحسب ما فُهم من تصريحات وزير العمل في حكومة تصريف الأعمال مصطفى بيرم لإحدى الإذاعات المحلية.
الزيادة غير مدروسة
الزيادة ستضاف إلى الرواتب السبعة بالنّسبة للموظّفين في الخدمة الفعلية، وسترفع متوسّط الراتب إلى ما لا يقلّ عن 40 مليون ليرة، أو ما يعادل 500 دولار بحسب سعر صرف السّوق. وعلى الرّغم من الحاجة الماسّة إلى أيّ زيادة تضاف على الرواتب بعدما فقدت 90 في المئة من قيمتها، إلّا أنّها تظهر بما لا يقبل الشكّ أنّ "الدولة لا تملك أيّ خطة إصلاحية حقيقية للرواتب والأجور، ولا حتّى للاقتصاد الوطني"، يقول عضو الهيئة الادارية في رابطة موظفي الإدارة العامّة إبراهيم نحال. "فالمحاولات تأتي عشوائية وارتجالية. ولعلّ أخطر ما فيها أنّها تعمل على تحويل الموظف في الملاك العام إلى مياوم". فربط الحوافز المجرّدة من أي ضمانات اجتماعية ومتطلّبات لوجستية في الإدارات العامّة، بالحضور اليومي، تعتبر تعدّياً صارخاً على نظام الموظّفين والمكتسبات التاريخية المحققّة بالعمل النضالي النقابي"، من وجهة نظر نحال.
للوهلة الأولى قد تبدو الزيادة كبيرة، إلّا أنّها سرعان ما تفقد أهمّيتها وتتلاشى، إذا نظرنا إلى فقدان الموظّفين، ولاسيما في الإدارات العامّة والبلديات وبقية المصالح.. للتغطية الصحّية والاستشفائية والتعليمية. وعليه تصبح هذه الزيادة قاصرة على شراء الأدوية إذا كان الموظف يعاني من أمراض مزمنة. أكثر من ذلك فإنّ هذه الزيادة على غرار سابقاتها لا تدخل في صلب الرّاتب. وبالتّالي لا تضاف إلى تعويضات نهاية الخدمة. وهي تعطى فقط لكي "يحيا الموظّف ويمارس عمله" بحسب تعبير نحال.
الحكومة ستضطر إلى العودة والاستدانة من مصرف لبنان من جديد لتغطية كلفة الرواتب والأجور
الكلفة باهظة
رغم التسليم جدلاً بمحدودية هذه الزيادة، إلّا أنّ كلفتها الاقتصادية ستكون هائلة. وإذا استثنينا بشكل مؤقّت من الموظّفين البالغ عددهم 320 ألف موظّف، الأساتذة بحدو 41 الفاً، وبعض الأسلاك العسكرية، فإنّ الزيادة ستشمل حكماً موظّفي الإدارة العامّة والمؤسسات العامّة والبلديات، وهي ستطال تقريباً 150 ألف موظّف ومتعاقد. وعليه قد تصل كلفتها الشهرية إلى 6000 مليار ليرة، في حال دُفعت بمتوسّط 2 مليون ليرة لحوالي 150 ألف موظّف عن 20 يوم في الشهر. وهي بذلك سترفع الكلفة الشهرية للرواتب إلى حدود 140 مليون دولار أي إلى ما بين 70 و80 في المئة ممّا تحصله الدولة في أحسن الحالات من ضرائب ورسوم. وفي حال صدقت التوقعات بحتمية تراجع مداخيل الدولة بسبب الانكماش الذي ستحدثه الموازنة وتراجع أعداد السياح واستيراد البضائع، فإنّ الحكومة ستضطر إلى العودة والاستدانة من مصرف لبنان من جديد لتغطية كلفة الرواتب والأجور. الأمر الذي سيضغط على سعر الصرف من جديد وسيقوّض كلّ التكهّنات المتفائلة بانخفاضه عن معدّلاته الحالية.
الحوافز لا تزال بعيدة عن المطالب الحقيقية
البديل عن هذه الزيادات من وجهة نظر نحّال هو سياسة إصلاحية حقيقية تعيد الرواتب إلى ما كانت عليه، قبل انهيار القيمة الشرائية وهذا يتمّ برأيه من خلال تحقيق الشروط التالية:
- ضمّ كلّ الرواتب والأجور إلى أساس الراتب.
- احساب الراتب على أساس سعر صيرفة 15 ألف ليرة.
- احتساب بدل النقل بـ ليترات البنزين. بحيث يعطى الموظف بين 5 و10 ليترات، وفقاً للمسافات عن كلّ يوم عمل.
- استعادة التأمينات الاجتماعية بقيمتها الحقيقية على حساب الجهات الضامنة.
- دعم التعليم الرسمي والمستشفى الحكومي والجامعة اللبنانية، لتأمين ما يليق بمحدودي الدخل.
- إصلاح الإدارة وملء الشواغر في المراكز وتثبيت المتعاقدين والأجراء والمياومين على مختلف مسمّياتهم الوظيفة.
- الإصلاح الضريبي وزيادة حصّة الضرائب المباشرة وتقليص غير المباشرة.
مشروع الحوافز الذي يتوقّع أن يرتدّ سلباً على سعر الصرف، يحمل في طيّاته تمييزاً فاقعاً بين الموظّفين في القطاع العام وبينهم وبين الأجراء في القطاع الخاص. فمن جهة ستعجز الكثير من الإدارات مثل البلديات، (معظمها لم يلتزم مضاعفة الرواتب ٧ مرات)، عن تسديد هذه المبالغ. ومن الجهة الثانية ستتجاوز رواتب موظّفي القطاع العام الرواتب في القطاع الخاص بما لا يقلّ عن أربع مرات. خصوصاً أنّ الحدّ الأدنى للأجور ما زال تسعة ملايين ليرة. هذا فضلاً عن الفرق الشاسع في بدل النقل المعمول به حالياً والمحدّد بـ 250 ألف ليرة للقطاع الخاص و450 ألف ليرة للعام. وفي جميع الأحوال من المتوقّع أن تعود الحوافز وتنسحب على كلّ العاملين والمتقاعدين، الأمر الذي يرفع كلفتها إلى اكثر ما تجبيه الدولة شهرياً من الضرائب والرسوم.