على الرغم من كلّ القدرات والفرص المتاحة فإنّ حصّة القطاعات الانتاجية من الناتج تتراجع وهي لم تعد تشكّل اليوم أكثر من 20 في المئة...
يدغدغ النّمط الإنتاجي، الفكر الاقتصادي عند صانعي السياسات والرّأي العام على حد سواء. لا عجب بذلك. فالدّول المتقدمة، مسمّاة صناعية. والقطاعات الانتاجية من زراعية وصناعية ومعلوماتية، تشكّل الجزء الأساسي الاكبر من ناتجها المحلّي الإجمالي، مقابل حصّة أقلّ للقطاعات الخدماتية. فلماذا الإصرار على حصر دور لبنان بتقديم الخدمات التي أثبتت هشاشتها؟ في حين أنّ فرصة التحوّل نحو الإنتاج مؤاتية، نتيجة انهيار النموذج القائم، وإثبات فشله؟
ينطلق المنادون بالتحوّل إلى الإنتاج كحلّ للانهيار من فكرتين أساسيتين. الأولى، هي أنّ "إكرام" النّموذج الاقتصادي القائم على الرّيع والخدمات المصرفية والتجارة العقارية، "هو دفنه"، وتسهيل "ولادة" نموذج الاقتصاد المنتج، ولو "قيسرياً". الثانية، الاحتفاظ بالأصول العامّة للدولة وتعزيز مواردها بعد الإصلاح، من أجل توزيع منافعها على كامل المجتمع ودعم عملية التنمية الاقتصادية.
حصة الإنتاج من النّاتج
تظهر الأرقام المنشورة على موقع "المعهد اللبناني لدراسات السوق – LIMS أنّ حصة الصناعة من النّاتج المحلّي الإجمالي تشكّل 12.8 في المئة فقط، والزراعة 6 في المئة. فيما تبلغ حصّة الخدمات 87.6 في المئة. في المقابل بلغت قيمة الصادرات اللبنانية (صناعية وزراعية) في العام 2021 حوالي 3.9 مليار دولار، منها نحو مليار دولار، تشكّل 26 في المئة من مجمل الصادرات، عبارة عن صادرات الذهب والمجوهرات. ما يعني أنّ الصّادرات القائمة على الإنتاج الحقيقي كانت بحدود 2.6 مليار دولار. مع الإشارة طبعاً، إلى عدم وجوب إغفال حصّة الصّناعة والزراعة اللبنانية في السّوق الداخلية والتي شهدت نمواً ملحوظاً في سنوات بعد الأزمة، لكونها شكّلت بديلاً عن الاستيراد. ولكن في جميع الحالات فإنّ ورشة الانتقال نحو الإنتاج وتعزيز حصّة الصّناعات الإنتاجية تتطلّب جهداً عظيماً وإصلاحات بنيوية، لا تقلّ تعقيداً عن المحافظة على قطاع الخدمات والدفاع عنه.
القدرات موجودة
كما يتبيّن، وخلافاً للمنطق الاقتصادي النيو - الكلاسيكي، لم تزدد حصّة الصادرات الصّناعية والزراعية اللبنانية مع انهيار قيمة الليرة وفقدانها نحو 98 في المئة من قيمتها. فهذه العملية كان يفترض بها، نظرياً، تخفيض كلفة الإنتاج وبالتّالي أسعار السّلع وجعلها أكثر تنافسية في الأسواق الداخلية والخارجية مع تلك المستوردة. إلّا انّه في الحالة اللبنانية فإنّ الواقع المتّصل بارتفاع كلفة الإنتاج، وخصوصاً في ما يتعلّق بالطّاقة ومحدودية المساحات الداخلية والطّلب الخارجي، وارتفاع معدّلات التهرّب والتهريب وسوء النظام الضريبي... كلّها عوامل كانت أقوى من أيّ نظريةّ علمية. "إلّا أنّ هذا يجب أن لا يكون عائقاً أمام العمل على توسيع فرص الاستفادة من الإمكانات الكبيرة، الطبيعية والبشرية، الموجودة، لتحقيق نقلة نوعية في مجال العمل الإنتاجي"، بحسب أستاذ مادّة الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية والخبير في شبكة المنظّمات العربية غير الحكومية للتنمية د. حسن شري. ففي ما يتعلّق بالرأسمال البشري، لا زال لبنان يملك في الدّاخل طاقات كبيرة، رغم الهجرة القسرية التي تحصل. أمّا في الخارج فإنّ كلّ لبناني قد يكون سفيراً لبلده يساعد على تسويق المنتجات المحلية وفتح أسواق جديدة، ولاسيّما التخصّصية منها. وتحديداً في الدول الإفريقية والخليجية حيث يمكن للبضائع اللبنانية أن تكتسب ميزة تفاضلية عالية.
القطاعات التي يمكن البناء عليها
تشير دراسة اقتصادية تعود إلى العام 2018 لـ د. حسن شري، إلى وجود عدد من القطاعات القادرة على تحقيق نقلة نوعية على صعيد الكمّية والنوعيّة، ونذكر منها باختصار:
- قطاع الأغذية والمشروبات. يساعده على ذلك لعب المطبخ اللبناني تاريخياً دور سفير للبنان في الخارج.
- قطاع النّقل، الذي حقّق ميزات تفاضلية كبيرة بين الأعوام 2000 والـ 2018 يمكن البناء عليها.
- قطاع صناعات المعدّات والألكترونيات. وقد برهن لبنان عن مقدرات كبيرة في هذا المجال خلال السنوات الماضية. وزادت الصادرات الصناعية بشكل كبير إلى إفريقيا والعديد من الدول.
أمّا في ما يتعلّق بالقطاعات الواعدة، خصوصاً صناعات الأدوية والمستحضرات الطبّية والتجميلية، فهي تتطلّب القدرة على المنافسة السعرية، وهذا ما يزال متعذّراً لغاية اليوم بسبب العجز عن منافسة الدول المحيطة قبل البعيدة، وفي مقدّمتها الأردن، سوريا، مصر وتركيا.
على الرغم من كلّ القدرات والفرص المتاحة فإنّ حصّة القطاعات الانتاجية من الناتج تتراجع وهي لم تعد تشكّل اليوم أكثر من 20 في المئة. وإذا كان من دور للسياسات العامّة فهو وقف هذا الانهيار الدراماتيكي أقلّه، والعودة إلى ما كنّا عليه سابقا في أقلّ الإيمان. وللمثال فإنّ "حصّة الصّناعات التحويلية المدرّة للعمالة والنموّ الاقتصادي انخفضت من حدود 13 في المئة من الناتج المحلّي في العام 1997 إلى أقلّ من 5 في المئة حالياً"، يفيد شري. "ويكفي أن نعود إلى ما كنّا عليه في هذا المضمار سريعاً، والبناء عليه لتحقيق نتائج أفضل. ومن الممكن تحقيق ذلك من خلال إزالة العوائق التقنية وغير التقنية المتعلقة بالمشاكل السياسية والجيوسياسية مع المحيط، وتخفيض أكلاف الإنتاج المتعلّقة بالطّاقة والنّقل والمواد الأولية".
الخصخصة من "كعب أخيل" للاقتصاد اللبناني، إلى ركيزة قابلة للحياة والتعافي
الانتقال إلى نموذج الإنتاج يتطلّب في المقابل دولة قوية، تمتلك دوراً فاعلاً على صعيد الحماية الاجتماعية. وهذا لن يتمّ في ما لو جردت من أصولها بـ "تراب المصاري"، كما يقال للدلالة على بخس الثمن، واستعمال الأموال للتعويض على شريحة محدودة من اللبنانيين. وفي الحقيقة تظهر دراسة جديدة لفريق الأبحاث الاقتصادية في "بلوم بنك"، تحت عنوان "الشركات المملوكة للدولة في لبنان، والتأثير المحتمل للخصخصة على الأزمة المالية الحالية" أنّ بعض هذه الشركات تساهم بشكل إيجابي في الإيرادات الحكومية. وعلى الرّغم من أنّ الشركات العامّة شكّلت على مدى السنوات الثلاث الماضية 10 في المئة بالمتوسط، من إجمالي النّاتج المحلي، فإنّه لا يوجد تقدير واضح لحجمها ومردودها. وعليه فإنّ خصخصة الأصول العامّة في لبنان تحمل آثاراً كبيرة على لبنان. ويتطلّب النجاح في هذه المبادرة تقييماً شاملاً وطويل الأمد يتجاوز التقييم الحالي الذي يركّز على استرداد الخسارة. وقد يكون البديل عن الخصخصة بحسب الدراسة هو "إنشاء شركة مستقلّة للأصول العامّة تقوم بإدارة هذه الأصول على أساس الكفاءة والربحية، مع اتباع الحوكمة السّليمة. ويمكن بعد ذلك استخدام العائدات الأعلى من هذه الأصول التي تتمّ إدارتها بشكل أفضل لدعم الموازنة، وتمويل الخدمات الاجتماعية، وتغذية صندوق استرداد الودائع. وقد حان الوقت بحسب الدراسة لتحويل الشّركات المملوكة للدولة من كونها "كعب أخيل" للاقتصاد اللبناني، إلى ركيزة قابلة للحياة والتعافي".
تجمع الكثير من الآراء على حتميّة فشل الخصخصة في ظلّ غياب رؤية ماكرو – اقتصادية، واضحة المعالم والاهداف. وفي حال تحقّقها بالشّكل الذي تطرح فيه راهناً مع ما يعتري القطاع العام من اهتراء "ستكون استكمالاً لاستعمال الاحتياطي منذ ثلاث سنوات ولغاية اليوم"، يعتبر شري. ولا يمكن عزل الخصخصة عن السياسة، وضرورة حمايتها من الذين نهبوا البلد وافلسوه وعادوا اليوم ليشتروا أصوله بأسعار زهيدة. خصوصاً في ظلّ العجز عن إجراء مزايدات شفّافة تضمن حماية الحقّ العام.