ليس هناك أسهل من شطب التزامات مصرف لبنان التي حدّدتها الخطّة الحكومية بـ 72 مليار، بجرّة قلم، وإعادة رسملته بـ 2.5 مليار دولار فقط، بحجّة عدم جواز التعويض على المودعين من الملك العام.
يجادل الاقتصاديون اللبنانيون في مسبّبات الانهيار الاقتصادي. البعض يعيده إلى النّمط الريعي القائم على الزبائنية السياسية والطّائفية فيما يعتبره البعض الآخر مجرّد أزمة سيولة. وانطلاقاً من هذا الخلاف الجوهري تنقسم الحلول إلى شّقين، الأول يدعو إلى الانعطاف نحو الإنتاج، بعد تنظيف الخسائر بتوجيه من صندوق النّقد؛ باعتبار أنّ الأزمة حالة إفلاس. فيما يطالب الفريق الآخر بمعالجة مسبّبات المشكلة، لأنّ ضرب الركائز الاقتصادية التي قام عليها لبنان ستؤدّي إلى المزيد من التعثّر والافقار. وعليه سنستعرض في جزئين الحلول التي يطرحها الفريقان.
ينطلق الدكتور منير راشد، معدّ "خطّة إنقاذ بديلة لخطّة الحكومة وصندوق النّقد" بالتّعاون مع فريق خبراء اتّحاد المصارف العربية من فكرة أساسية مفادها أنّ "الأزمة اللبنانية هي بالدرجة الأولى أزمة سيولة نتجت عن توقّف مصرف لبنان عن تزويد المصارف بالأموال من ودائعها لأسباب غير واضحة. مع العلم أنّه كان بحوزته وقتذاك 51 مليار دولار من العملات الأجنبية. ومع افتراض الحكومة عجز المصارف عن إعادة الودائع، أقرّت بشطبها. متجاهلة أنّ المصارف في جميع أنحاء العالم تعمل على أساس توفير السيولة الآنية المطلوبة، وليس إعادة جميع الودائع في آن واحد.
تحرير سعر الصّرف
بتوصيفه للدّاء يقول راشد إنّ "الدواء كان ولا يزال بتحرير سعر الصّرف أولاً، باعتباره أداة إصلاحية تلقائية". إذ من شأن هذا الاجراء تحقيق جملة من الفوائد، أهمّها:
- خلق سيولة في المصارف نتيجة تمكّنها من التّعامل في سوق القطع بالسّعر الحرّ.
- انتهاء الفرق بين اللولار والدولار في حسابات الودائع.
- تأمين التوازن في الأسواق المالية.
- تحقيق التوازن في ميزان المدفوعات وتشجيع عودة الاستثمارات.
- توقّف مصرف لبنان عن التدخّل في السوق بائعاً أو شارياً للدولار.
إصلاح القطاع العام وخصخصة إدارة مؤسّساته
هذا الإجراء يجب أن يتمّ بحسب راشد "بالتزامن مع إعادة جدولة الدين العام، الذي أصبح بمستوى هو الأقل عالمياً. إذ يبلغ 32 مليار دولار، ويشكّل 106 في المئة من النّاتج المحلّي. ويجب أن يُتّبع بتحرير سعر الصّرف سريعاً، وتحقيق التوازن المالي للدولة. وذلك من خلال العمل على شقّين: الأوّل، ضبط التهرّب والتهريب، وتفعيل الجباية، واعتماد سياسات ضريبية عادلة ومبسّطة. الثاني، خصخصة إدارات معظم مؤسسات القطاع العام التجارية، مثل الكهرباء والاتّصالات الموانئ والكازينو، طيران الشّرق الأوسط.. بالاستناد إلى مناقصات عالمية وبوضع سقوف للاستملاك. ومن ثمّ عرض أسهمها في بورصة بيروت بعدما تبدأ بتحقيق الأرباح مع حفظ حصّة للدّولة من أجل الحماية الاجتماعية. وهو الأمر الذي سيتيح الفرصة لأصحاب الودائع بتنويع محفظتهم، وشراء أسهم مقابل الودائع. بحيث يمكنهم التداول بها بسوق مفتوحة وشفّافة من استعادة القيمة الحقيقية للوديعة.
الودائع اولاً
خلافاً لـ "تعليب" المدافعين عن إمكانية ارجاع الودائع، أو "تكوينها" بحسب المصطلح الشّائع، بقالب الدفاع عن المصارف، يعتبر أحد ممثلي المودعين ريشار فرعون، أنّ ما يدافعون عنه هو حقّهم أولاً، و القطاع المصرفي ثانياً. "لأنّ القضاء على الأخير لن يحرم المودعين حقوقهم فحسب"، على حدّ قوله، "إنّما سيقوّض الثّقة بلبنان، ويهشّل الاستثمارات ويمنع المحاسبة عن كلّ مصرفي أخطأ".
شطب الودائع مرادف للانهيار الشامل
أكثر من ذلك فإنّ أيّ شطب لالتزامات مصرف لبنان البالغة 72 مليار دولار تجاه المصارف بحسب الخطّة الحكومية يشكّل بحسب معارضي هذا الطرح مخالفة دستورية قبل أن تكون قانونية. إذ تحفظ الخطّة حقوق من سمتهم بصغار المودعين الذين يملكون أقلّ من 100 ألف دولار كاملة، فيما تتشفّى بكلّ من يملك أكثر من هذا المبلغ بغضّ النظر عن طبيعة وديعته، وفي ما إذا كانت نتيجة عمل سنوات، أو توظيفات لمؤسسات وطنية واجتماعية كالضمان الاجتماعي، أو أموال صناديق تعويض النقابات واستثمارات المستشفيات. أمّا من الناحية القانونية فيلفت فرعون إلى أنّ المادة 113 من قانون النّقد والتسليف واضحة وضوح الشمس، وهي تنصّ على أنّه في حال كانت نتيجة سنة من السنين عجزاً في مصرف لبنان، "تغطّى الخسارة من الاحتياط العام. وعند عدم وجود هذا الاحتياط أو عدم كفايته تغطّى الخسارة بدفعة موازية من الخزينة". وهناك أيضا المادة 67/2 التي أقرّت يوم إفلاس بنك انترا، كفيلة بمعالجة الأزمة المصرفية من دون الخوض في سنّ قوانين جديدة لإعادة الهيكلة".
ليس هناك أسهل من شطب التزامات مصرف لبنان التي حدّدتها الخطّة الحكومية بـ 72 مليار، بجرّة قلم، وإعادة رسملته بـ 2.5 مليار دولار فقط، بحجّة عدم جواز التعويض على المودعين من الملك العام. فهذا الأخير الذي يعود بحسب مؤيّدي الطرح إلى كلّ اللبنانيين وليس لفئة محدّدة منهم، "نسألهم أين كانوا عندما كانت تستعمل أموال المودعين لتثبيت سعر الصّرف وتسهيل التّحويل من الليرة إلى الدولار على سعر وهمي غير حقيقي، ولدعم الكهرباء، وتعويض العجز في الموازنات التي استفاد من إنفاقها كلّ المواطنين"، يسأل فرعون متعجباً. "فيما استعمال الأصول العامّة بحكمة ومسؤولية لا يعود على المودعين وحدهم بالفائدة، إنّما على عموم المواطنين، بسبب تحسّن الخدمة وتراجع الكلفة".
المشكلة في هذا الطرح العام الذي كتبت فيه عشرات الخطط التفصيلية، أنّه يستوجب محاسبة الطبقة السياسية. "ولهذا لا أحد يسير به"، برأي فرعون. "ويستمرون في المماطلة منذ أربع سنوات. حيث تفاقمت الأزمة أضعافا مضاعفة، وزادت تكلفتها ودفعت بالكثيرين من المودعين والمستثمرين إلى حافة اليأس".
على غرار ما قال أرخميدس "أعطني عتلة بالطول الكافي ودعامة بالقوة الكافية، فأستطيع تحريك العالم بمفردي"، يعتقد كثيرون أنّه لو وضعت "عتلة" تحرير سعر الصرف منذ اليوم الأول في عجلة السياسة النقدية، وتمّ دعمها بإصلاح القطاع العام، كان ليخلص لبنان من الانهيار؟