ظلّت أسطورة الاقتصاد الإسرائيلي حتى الأمس القريب تنافس الآلة العسكرية على استحالة قهرها، إلى أن تقهقرا على ملعبهما سوياً... 

لا يضاهي الخسائر الإنسانية التي يتكبّدها الكيان الإسرائيلي إلّا خيباته الاقتصادية. فالحرب المستمرّة منذ قرابة الشهر وخمسة أيام على قطاع غزّة والجبهة الشمالية، كلّفت الاقتصاد الإسرائيلي في المضمون، سمعته. وذلك قبل أن تأخذنا الأرقام برحلة "ممتعة" إلى ربوع سقوط مختلف القطاعات ولاسيّما منها التكنولوجية والسياحية، في شرّ ما أضمر الكيان لفلسطين والدّول العربية.

ظلّت أسطورة الاقتصاد الإسرائيلي حتى الأمس القريب تنافس الآلة العسكرية على استحالة قهرها، إلى أن تقهقرا على ملعبهما سوياً، في حرب غير متوقّعة لجهة الوقت والحجم. فاقتصاد بناتج إجمالي يفوق 500 مليار دولار، وباحتياطي عملات صعبة يبلغ 200 مليار دولار، وبعملة قوية تناهز 3.7 شيكلاً مقابل الدولار، وأسواق مالية نشطة، وقطاع تكنولوجي من الأقوى عالميا... يستحيل أن ينهار في أيّام مهما اشتدّت الصّعاب. إلّا أنّه وكما يقال في الأمثال الشعبية الفلسطينية إن "دود الخلّ منه وفيه"، للتعبير عن أنّ سبب المشكلة كامن في مُسببها، فإنّ نقطة أسباب الفشل السريع في الاقتصاد الإسرائيلي تقبع جوهرياً، في صلب تكوينه، وظرفياً، في السياسات الاقتصادية المتّبعة. وخصوصاً في ما يتعلّق بموازنتي 2023 و2024 اللتين تمّ إقرارهما قبل أشهر قليلة من اندلاع الحرب.

الأسباب الجوهرية

تبيّن الأرقام التحليلية أنّ تكلفة الحرب ستبلغ 200 مليار شيكل، أي ما يعادل 51 مليار دولار، تمثّل 10 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي. هذه الأرقام التقديرية المبنية على احتمال استمرار الحرب بين 8 إلى 12 شهر، مع اقتصار الأمر على غزّة فقط، يقابلها على أرض الواقع أرقام حقيقية أهمّها:

- انخفاض الشيكل مقابل الدولار بنسبة 6 في المئة من 3.8 إلى 4.08 شيكلا لكلّ دولار.

- تراجع احتياطيات العملة الصعبة بنسبة 3.7 في المئة، من 198.5 مليار دولار إلى 191.2 ملياراً.

- ارتفاع العجز في الموازنة بنسبة 4 في المئة.

- تراجع النموّ إلى ما بين 2 و2.8 في المئة. وانكماشه بنسبة 11 في المئة في الفصل الأخير من العام الحالي.

- تراجع حركة الطيران، من وإلى إسرائيل، بنسبة 80 في المئة.

- تباطؤ القطاع السياحي، وكلّ ما هو مرتبط به من إشغال فندقي وحركة مطاعم.

- نقص هائل في العمالة نتيجة الاستدعاءات العسكرية بكلفة تصل إلى 600 مليون دولار اسبوعياً.

- مواجهة 70 في المئة من شركات التكنولوجيا التي تساهم بأكثر من 24 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي صعوبات تشغيلية.

الخسائر الكبيرة التي تكبّدها الاقتصاد الإسرائيلي في فترة زمنية وجيزة تعود إلى "طبيعة الاقتصاد الإسرائيلي"، بحسب الباحث الاقتصادي جاد غصن. "فهو اقتصاد مفتوح على العالم بسبب حجم صادراته، وحاجته الكبيرة إلى الواردات. ويقوم بشكل أساسي على قطاعات المعلوماتية والتكنولوجية "HIGHTECH"، المتحلّقة بشكل مباشر أو غير مباشر حول القطاع العسكري. بدءاً من الأسلحة ووسائل التجسّس، مروراً بالطّائرات من دون طيّار، ووصولاً إلى العمالة". وبالأرقام فإنّ الخسائر اليومية المباشرة للحرب المتعلّقة بتكلفة الذخائر والتموين والتعبئة العامّة تصل إلى 246 مليون دولار"، بحسب تقديرات وزير المال الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش. بينما تذهب مؤسسة "مايتاف إنفستمنت" المالية أبعد منذ ذلك، وتقدّر تكلفة الحرب إذا استمرّت 60 يوماً بـ 17.2 مليار دولار. وتقسّم الكلفة على الشكل التالي:

- 6.17 مليار دولار كلفة مباشرة للحرب.

- 4.2 مليار دولار تعويضات على الأفراد والمؤسّسات.

- 7.6 مليار دولار خسائر ضريبية.

ومن الممكن "إضافة خسارة الشيكل إلى هذه الخسائر"، يقول غصن. "وأيضاً المشكلة الأساسية التي تعاني منها كلّ القطاعات وهي العمل في ظرف إغلاق شبه كامل يشبه إلى حد كبير أيام كوفيد 19. فالمدارس متوقّفة، ويمنع التجمّع لأكثر من خمسين شخص... وغيرها من الإجراءات المسببة للانكماش". ويمكن إضافة عاملين أساسيين بحسب غصن، وهما:

- استدعاء الجيش الإسرائيلي لحوالي 360 ألف فرد من الاحتياطي. أي استدعاء كلّ شخص أتمّ الخدمة العسكرية ولم يزل في سن تسمح له بأن يكون جزءاً من التعبئة العسكرية. وعليه فإنّ الاحتياطي يتشكّل من القوى العاملة الأساسية في الاقتصاد. الأمر الذي أدّى إلى انحسار القوى العاملة في إسرائيل بنسبة 15 في المئة، وترتفع هذه النسبة أكثر في قطاع التكنولوجيا.

- منع عمل فلسطينيي غزة والضفة الغربية داخل إسرائيل بإجمالي عدد يقدر بـ 200 ألف عامل، ويتركّز نشاطهم بشكل رئيسي بالزراعة والبناء بشكل أساسي. وستعاني هذه القطاعات على المدى المنظور بشكل كبير نتيجة تراجع انتاجها وتقلّصه.

الأسباب الظرفية

المسبّبات الجوهرية لفشل الاقتصاد الإسرائيلي في التعامل مع حرب داخلية بهذا الحجم، تزامنت مع تطوّرات اقتصادية ظرفية تمثّلت في الدعم الكبير لـ "مجتمع الحريدية". فرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيمين نتنياهو الحريص على عدم سقوطه، رضخ للائتلاف الديني المتشدّد في حكومته، وأقرّ في أيار الماضي سلّة من التحفيزات المالية الكبيرة للمجتمع الديني. على هذا الأساس نالت الأحزاب الدينية حصّة كبيرة من موازنتي 2023 و2024، ما دفع باقتصاديين إسرائيليين من التحذير من مغبّة هذه السياسة، ليس لكون المبالغ المقرّة تصل إلى حدود 10 مليار شيكل فقط، إنّما لكونها مخصصة لمجتمع ديني لا يعمل ولا ينخرط في الجيش ولا يعلّم العلوم إنّما فقط يهتم بتدريس التوراة. وهو ما سيرتدّ سلباً على مختلف نواحي الاقتصاد. خصوصاً إذا ما توسّعت هذه الحالة وتعمّقت نتيجة الدعم الكبير الذي تحصل عليه هذه الجماعات.

خسائر الكيان الإسرائيلي المباشرة وغير المباشرة مرشّحة للارتفاع مع كلّ يوم تستمرّ فيه الحرب. وما لم يؤخذ بعد بعين الحسبان، ويقاس، هو مصير المستوطنات القريبة من غزّة (غلاف غزة) ذات الإنتاج الزراعي، وفي الشمال مع الحدود اللبنانية في اليوم التالي لوقف الحرب. فهل ستعود الحياة إلى طبيعتها؟ وهل يأمن المستوطنون للعودة للعمل والإنتاج؟ وكم الوقت الذي يتطلّبه التطبيع مع الواقع الجديد الذي فرضه "طوفان الأقصى"؟. أسئلة ستتكشّف تباعاً وستضع الاقتصاد الإسرائيلي أمام حلول احلاها مرّ.