الامتحان الأكبر سيكون أمام النواب، فمشروع القانون هذا سيوضع حكماً على التصويت في اللجنة العامّة لمجلس النواب...

عنوانٌ إشكاليٌ جديد طَفَا على سطح الإنهيار النّقدي، ويتمثّل بـ "الضّريبة على القروض المسدّدة بغير قيمتها الحقيقية". فعلى غرار كلّ المسائل المتعلّقة بكيفيّة "اقتسام الخسائر" أو "توزيعها"، المولّدة من النّظام النّقدي الذي اتّبع لثلاثة عقود، ينقسم البلد إلى جبهتين: مؤيّدة ومعارضة. وما بينهما "ينبطح" بعض المشرّعين في "خنادق عميقة" وأيديهم فوق رؤوسهم، ولسان حالهم "يا ربّ السترة".

تُظهر أرقام جمعيّة مصارف لبنان في تقرير "مؤشّرات مصرفية نقدية – حتّى نيسان 2023"، تراجع تسليفات المصارف للقطاع الخاص بالعملات الأجنبية من 38296 مليون دولار في 30 أيلول 2019، إلى 8906 مليون دولار في 30 نيسان 2023. ما يعني أنّ القطاع الخاص المكوّن من أفراد وشركات، سدّد 29390 مليون دولار (30 مليار دولار تقريباً)، في غضون أقلّ من أربع سنوات. وباستثناء قروض الأعمال لغير المقيمين، فإنّ كلّ القروض سُدّدت على أساس سعر صرف 1500 ليرة بالنّسبة للأفراد المقيمين و3900 ليرة بالنّسبة لقطاع الأعمال المقيم، بحسب ما فرض التعميم 568 لمصرف لبنان. في حين أنّ سعر الصّرف الحقيقي كان يتدرّج صعوداً وبوتيرة سريعة حتّى لامس 140 ألف ليرة في آذار 2023. وعليه جرى تضمين موازنة 2024 بنداً ينصّ على تحصيل ضريبة الدّخل من المقترضين، ولاسيّما الشركات عن الفارق المحقّق من تسديد القروض بغير قيمتها الحقيقية. وترتكز فلسفة القرار على أنّ الشركات كانت تبيع سلعها وخدماتها على سعر صرف السّوق، وتتربّح على حساب المودعين. ما يعني وجوب استيفاء ضريبة يصبّ عائدها في صندوق إعادة الودائع.

قطاع الأعمال ينتقد القرار ويعتبره هرطقة تصحّ في جمهورية الموز

الردّ على القرار الذي أثار استياء قطاع الأعمال في لبنان لم يتأخّر. فعقدت الجمعيات والنقابات والأسواق التجارية، بدعوة من رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شمّاس، يوم أمس، لقاءً موسّعاً للتداول في مشروع القانون. وحذّر المجتمعون من مغبّة السير بهذا القرار لما يحمله من انتهاكات قانونية ودستورية، ومخالفات للمنطق الاقتصادي السّليم، ومخاطر إبعاد المودعين عن ودائعهم المصرفية أكثر من أيّ وقت مضى. وقد اعتبر شماس في المؤتمر الصحفي الذي أعقب اللقاء أنّ هذه الضريبة غير قانونية لكونها مبنيّة على مفعول رجعي، وهذا مبدأ لا يستوي في نطاق نظام ديمقراطي عريق، كالنّظام اللبناني. وغير دستورية لكونها تميز بين المقترضين. وتخالف حرّية التعاقد التي كفلها الاقتصاد الليبرالي (بين المودع بصفته بائعا لوديعته بشيك لولار، وبين الشاري الذي سدّد به قرضه بهذا الشيك الذي اشتراه بحسم تراوح بين 30 و80 في المئة). وشدّد شمّاس على أنّ المصرف المركزي كان قد أتاح بوضوح تام في تعاميمه حقّ تسديد الالتزامات الدولارية للأفراد على أساس سعر الصّرف الرسمي. وسبق للقضاء، وفي مناسبات عديدة، أن أصدر أحكاماً باسم الشعب اللبناني لإلزام المصارف بقبول الشيكات المصرفية لإطفاء مطلوبات دولارية لديها. هذا عدا عن أنّ مشروع القانون هذا يستند بحسب شمّاس على فرضيات غير واقعية لجهة حجم القروض المعنيّة، وتالياً للإيرادات الضريبية المتوقّعة منها (من المكلّفين وطبعاً ليس من المكتومين)، بما أنّ تسديد القروض السابقة تمّ بغالبيته من حساب دائن إلى حساب مدين يخصّان المودع ذاته. فضلاً عن عمليات بيع العقارات الكبيرة التي قام بها المطوّرون العقاريّون بواسطة الشيكات المصرفية، لمجرّد الإيفاء بديونهم الضخمة. وعليه فإنّ القرار هو محض هرطقة، تصُحّ في جمهوريات الموز وليس في الديمقراطيات الحديثة.

تضليل الرأي العام

هدير محركات قطاع الأعمال التي أعيد تشغيلها في مواجهة مشروع القانون، "صمّت الآذان عن حقيقة القانون الهادئة والمنطقية"، بحسب رئيس لجنة حماية المودعين في نقابة المحامين كريم ضاهر. فالقانون لا يخلق ضريبة جديدة لاستيفائها بمفعول رجعي، إنّما يطبق مبدأ ضريبة الدّخل. والتي تنصّ على وجوب إخضاع الربح المتأتّي من أيّ عمل مهني، أو نشاط غير مهني لضريبة الدّخل. وفي حال كان الإيراد، أو الربح المُحقق غير خاضع لضريبة نوعية أخرى على الدخل، مثل الضرائب على الرواتب والأجور ورؤوس الأموال المنقولة أو الأملاك المبنية، يكون خاضعاً حكماً لضريبة الدّخل، الباب الأول، والتي تتراوح بين 4 و25 في المئة على الأفراد، و17 في المئة على الشركات.

أمّا في ما يتعلّق بالتمييز في مشروع القانون بين اللبنانيين بحسب نوع القرض وحجمه، فهو غير وارد في المشروع لا جملةً ولا تفصيلاً. إذ تنصّ المادّة الأولى منه على أنّه خلافاً لأيّ نصّ آخر وعملاً بأحكام القوانين اللبنانية المرعيّة الإجراء. ولاسيّما المادّة الرابعة الفقرة (د) من المرسوم الاشتراعي 144 تاريخ 12/6/1956، والقانون رقم 44 تاريخ 11/11/2008 (التصريح الإلزامي عن الربح في المادة 8) وبالتنسيق مع لجنة التّحقيق الخاصّة والرقابة على المصارف طبقاً لأحكام القانون رقم 306/2022، المتعلّق برفع السرية المصرفية، يطلب من الإدارة الضريبية المختصّة في مهلة لا تتعدّى 31/ 12/ 2024 مراجعة وتدقيق تصاريح المكلّفين (بالمطلق) المقترضين لدى المصارف الذين أعادوا تسديد موجباتهم وديونهم بسعر صرف وبقيمة مختلفة عن القيمة الفعلية، وحقّقوا من خلالها فروقات بسعر الصرف وتسديد أرباح لم يسقط استدراكها بعامل مرور الزمن وفقاً للأصول.

يفرّق القانون بشكل واضح بين الذين سدّدوا قروضهم باللولار من حساباتهم المحتجزة، وأولئك الذي اشتروا شيكاً لولارياً من مودع وبحسم وصل إلى 80 في المئة من أجل تسديد الدين. ففي الحالة الأولى لم يحقّق مسدّد القرض ربحاً، وذلك خلافا للحالة الثانية. أمّا في ما يخص إعفاء أصحاب القروض الفردية التي تقل عن 100 ألف دولار من هذه الضريبة فهذا يعود إلى حرص نائب رئيس الحكومة الوزير سعادة الشامي على احتساب نسبة التضخم وخسارة المقترضين من محدودي الدخل، جزءاً كبيراً من رواتبهم، ولاسيما في حال كانت بالليرة، أو اضطرارهم إلى سحب ودائعهم من المصارف "بهيركات" لم يقلّ عن 60 في المئة. وهم يختلفون من هذه الزاوية مع التجّار الذي حقّقوا أرباحاً هائلة بتسديد قروضهم بسعر مدعوم مع العلم أنّهم كانوا يسعّرون منتجاتهم وخدماتهم بحسب سعر السوق.

اعتراض بعض الأفراد والكيانات الاقتصادية لا يقتصر من وجهة نظر ضاهر على تحمّل الضريبة فقط، إنّما على عدم الرغبة في كشف ذممهم المالية ومعرفة الأرباح المحقّقة. كما يظهر عدم تمتّع المعترضين بأيّ حسّ تضامني اجتماعي ووطني.

عبرة من التاريخ

أعاد النقاش المحتدم حول الضّريبة على القروض المسدّدة بغير قيمتها الحقيقية إلى الأذهان تجربة سبعينات القرن المنصرم المشابهة. فمع تدهور قيمة الليرة وانخفاض قيمة القروض المأخوذة بالعملات الأجنبية أصدرت السلطة التشريعية بعهد رئيسي الجمهورية الياس سركيس والحكومة سليم الحص، قانوناً أوقف بموجبه تسديد القروض إلى حين جلاء الصورة، وإيجاد الحلّ لعدم تحميل المودعين الخسائر وإعادة جدولة الديون. "بهذه الطريقة يتصرّف المسؤولون"، يقول ضاهر، "وليس بالسّماح لقلّة أن تثرى على حساب المودعين، سواء كان بتهريب الودائع أو تسديد القروض الهائلة بغير قيمتها الحقيقية، وعملها مع أصحاب المصالح ليل نهار على شقّ صفوف النقابات والجمعيات المدافعة عن المودعين من أجل إسكات المعارضين".

الامتحان الأكبر سيكون أمام النواب، فمشروع القانون هذا سيوضع حكماً على التصويت في اللجنة العامّة لمجلس النواب، ولا إمكانية لتمييعه، و"ساعة ذاك سيظهر مَن مِن النوّاب مع حماية المودعين ومن يتزلف لهم"، يختم ضاهر.. وغداً لناظره قريب.