يعتبر كثيرون أنّ تعميم المبدأ الكوبرنيكي خطوة غير متأنّية لأنّ ما نجهله يفوق ما نعرفه

أحد الأسئلة المعقَّدة التي استوطنت عقول العلماء والفلاسفة عبر الزمن: أين نشأت الحياة وكيف؟ وكون الأخيرة لم تنبلِج في زمان ومكان وتقاطُعٍ ظرفيّ ما فحسب، بل هي تتطوّر باطّراد أشكالاً وخصائصَ، يزيد المسألة تعقيداً. الركون إلى القوانين الفيزيائية غالباً ما تكون الحال لِشرح بعضٍ من خبايا ذلك التطوّر أو كلّه. لكن القوانين تلك ليست الممرّ الحصري إلى الإجابات. أحد من استفاضوا في التعليل، بعيداً عن الفيزياء، هو عالِم الأحياء الأميركي، ستيوارت كوفمان، في كتابه الصادر سنة 2019 بعنوان "عالَم ما وراء الفيزياء: نشأة وتطوُّر الحياة". وفيه يشرح أن التقدُّم البيولوجي تفتَّح على أكثر من جبهة: من بيئة كيميائية معقَّدة، إلى تكاثُرٍ جزيّئي وتمثيلٍ غذائي، وصولاً إلى خلايا أوّلية مبكرة وتطوُّرٍ بمفهومه البشري المُسمّى "حياة".

البيولوجيا، طبعاً، تسير جنباً إلى جنب مع الفيزياء في معرِض التفسير. ومن المنظارَين، فالحياة ذات القابلية الدائمة للتطوّر، في نظامنا الشمسي كما في مئات مليارات الأنظمة الشمسية الأخرى المشكّلة لكوننا، غزيرة للغاية، حسبما يعتقد العلماء. الأرض، وسط هذا الغنى الكوني، تبقى مثالاً خالصاً على تطوُّر الكائنات وحيدة الخليّة إلى محيط حيوي أكثر تعقيداً. لكن هل في ذلك ما يجعلها وإيّانا مميّزين كونيّاً؟

كتاب "حول دوران الكواكب السماوية" لعالِم الفلك والرياضيات البولندي، نيكولاس كوبرنيكوس، عام 1543، شكّل ثورة في هذا الإطار. فهو خالَف تيّاراً ساد طويلاً بطرحه نظرية مركزية الشمس (heliocentrism) - أي كون الأرض جرماً يدور في فلكها وليس العكس، وفق نظرية مركزية الأرض (geocentrism). والأهم أن مساواة الأرض بالكواكب الأخرى الدائرة حول الشمس، نزعت عنها – وعنّا – الوضعيّة الكونية الاستثنائية.

نتأمّل وضعيّة نظامنا الشمسي في مجرّة درب التبّانة ووضعيّة الأخيرة في الكون ككلّ فتزداد "الاستثنائية" تلاشياً؛ الأنظمة الفلكية ومحتوياتها مجرّد أجزاءٍ من كلّ لامتناهٍ. أمّا ما عزّز توسيع العلماء لـ"بيكار" المبدأ الكوبرنيكي مذّاك فهو، برأي معظمهم، عدم إلمامنا الكافي بالكواكب الخارجية (exoplanets) وتركيباتها البيو - كيميائية والجيو - فيزيائية، ناهيك بعدم حسْمنا لمسألة وجود حياةٍ في عوالم أخرى من عدمه.

هكذا، يعتبر كثيرون أنّ تعميم المبدأ الكوبرنيكي خطوة غير متأنّية لأنّ ما نجهله يفوق ما نعرفه. فالمبدأ، على ثوريّته، ليس كافياً لقطع الشكّ باليقين. إذ لا هو أخذ بعين الاعتبار الوضعيّة النسبية لكوكب ما – وأعداد الكواكب في الكون المرئي تفوق عشرات مليارات التريليونات - في نطاقٍ داعمٍ للحياة حول نجمه. ولا كان قاطعاً لناحية تحديد ندرة الحياة أو وفْرتها في الكون. فكيف عسانا نتغنّى بأهميّتنا، للسائل أن يسأل، ونحن محاطون بهذا الكمّ الهائل من الأجرام السماوية القابلة - بجزء منها، أقلّه - للحياة؟

لكن، هذا التساؤل بالذات شكّل محور كتابٍ صدر الشهر الماضي لعالِم الفيزياء البرازيلي، مارسيلو غلايزر، بعنوان: "فجر الكون الواعي: بيانٌ لمستقبل البشرية". فبرأي غلايزر، الوقت حان لتجاوُزالمبدأ الكوبرنيكي – أو مبدأ العادية الكونية (principle of cosmic mediocrity) - قدر تعلّق الأمر بالبشرية. وبالتالي، ثمّة ضرورة لصياغة "قصّة" جديدة عن ذواتِنا تُقرّ بفرادتنا، حتّى إن كان ثمة كواكب أخرى مأهولة وقابلة للحياة، كما يخلص.

لنأخذ، مثلاً، كيفية توزيع نسبتَي المياه واليابسة على الأرض، حيث تغطّي الأولى ثلثَي مساحة الكوكب الأزرق. والحال أنّ تواجُد المياه بكميات كبيرة لدينا مردّه إلى اصطدامات متلاحقة طالتنا مع مذنّبات وكويكبات. وبالرغم من أنّ تلك الاصطدامات حصلت من قبيل الصدفة، إلّا أن ليس هناك ما يدعو للاعتقاد بأنّ صدفاً مماثلة أدّت إلى توزيع مماثل للنسب في كواكب أخرى، كما يرى العلماء. وهو ما يجعل واقع التوزيع شبه المتوازي على كوكبنا - حيث لعِبت مناطق المدّ والجزر التقاطعية بين المحيطات واليابسة دوراً حاسماً في تطوُّر السلالات البيولوجية - غير مرجَّح في أماكن أخرى. فالمسارات التطوّرية، هنا وهناك، كانت وتستمرّ رهن ظروف ذاتية وموضوعية متشابكة.

كوبرنيكوس كان أحد من تطرّقوا إلى عاديّتنا – أو عدم تميّزنا – ككوكبٍ وبشر. فقد تلاه، من بين آخرين، في القرن الثامن عشر عالِم التاريخ الطبيعي البريطاني، تشارلز داروين، بتوصيفه لنا كنتاجٍ طبيعي للتطوّر على قاعدة الانتقاء الطبيعي. وفي القرن الماضي، أظهر عالِم الفلك الأميركي، إدوين هابل، وجود مجرّات أخرى غير درب التبّانة، يفوق عددها التريليون في ثنايا الكون المرئي. ففي مجرّتنا وحدها، يستضيف واحد من أصل كل خمسة نجوم مشابِهة للشمس أو أصغر منها حجماً، في محيطه، عوالم بحجم الأرض تسير في مدارات ذات حرارة معتدلة (نسبياً) وتحتوي على مزيجٍ من ماء ويابسة.

نتكلّم هنا عن مئات ملايين الكواكب القابلة مبدئياً للسكن. وما أن نُدخِل في حساباتنا اشتباه العلماء بوجود أكوانٍ أخرى، يستحيل المبدأ الكوبرنيكي شديد المحافَظة في تقييمه لتميّزنا. إذ إنّ مجرّد احتمال وجود كون متعدّد (multiverse) يحتّم علينا التحلّي بكثير من "التواضُع". نفهم أنّ "الأنا" البشرية – غير المتواضِعة - لا تستسيغ الإحاطة بالمشهد بكليّته من منظار كوبرنيكي. لكنّنا على مفترق حاسمٍ بإزاء مروحة من التحدّيات. من التغيّر المناخي المتعاظِم إلى التلويح – والتلويح المضاد - بالإفناء النووّي والبيولوجي. أمّا الذكاء الاصطناعي، بمفاعيله المقبلة لا محالة، فقد يقلب المعادلات فوق رؤوس الجميع.

وفي ذلك كلّه مدعاة للتريّث والتفكير. فلو أردنا حقّاً إنقاذ أنفسنا والكوكب من خراب عميم، يجب إعادة المبدأ الكوبرنيكي إلى إطاره الفلكي البحت ونزع الصفة الأرضية - البشرية عنه. إذ رغم أخطائنا وخطايانا، يبقى هناك ما يميّزنا كأرضيّين، أقلّه لِقدرتنا على مزج العِلم بالحكمة والوعي بالمعرفة. لكن "تميّزنا"، أيّاً كان مداه، لا يعفينا فعلاً من واجب إعادة النظر بعلاقتنا مع أنفسِنا ومع الكون.