لم يخيّب تقرير ألفاريز آند مارسال" الابتدائي "preliminary forensic audit" في حسابات مصرف لبنان أمل المهتمّين. فقد أكّد المؤكّد بتفرّد الحاكم السابق رياض سلامة إدارة دفّة "سفينة" السياسة النقدية، وفرْدِ "أشرعتها" بالتماهي مع رياح السياسيين العاتية لإعطائها دفعاً سريعاً. فـ "تلاطمتها" تيّارات الفساد والاستفادة الشخصيّة، وقادتها صاغرة مع البلد إلى الغرق في دوّامة الانهيار. بيد أنّ أهميّة "التشريح المحاسبي" لا تتمثّل بكشف التجاوزات كأيّ تدقيق عادي، إنّما الحصول على دليل لاستخدامه في الإجراءات القانونية في المحكمة، ولهذا يصطلح على تسمية التدقيق بـ: "الجنائي".
بعد طول انتظار أصدرت "ألفاريز آند مارسال" تقريرها الواقع في 332 صفحة، والمقسّم على 14 محوراً عن الفترة الممتدة بين العام 2015 و2020. ويتبيّن بالقراءة الأوّليّة ثلاثة مخالفات جوهرية ستبنى عليها بقية النتائج والتحليلات التقنية في سياق التقرير، وهي:
- حاكم المصرف المركزي السابق كان يتفرّد بأخذ القرارات المصيرية.
- الميزانية مبنية على "نظام محاسبي خاص"، بالتعبير الملطف، بعيد كل البعد عن معايير المحاسبة العالمية حتى بالنسبة للمصارف المركزية. وبـ "فجّ" الكلام يمكن القول إنّ الميزانية مبنيّة على التزوير.
- استعمال الأموال العمومية للإثراء الشخصي، والاسترضاء الإعلامي، وتوزيع المنافع على المتنفذين من مصرفيين ورجال أعمال ومؤسسات وجمعيات وأفراد.
النّقص في المعلومات
"يتطرّق التقرير إلى الكثير من النقاط التي يجب على التدقيق الجنائي أخذها بعين الاعتبار"، تقول نقيبة "خبراء المحاسبة المجازين" سابقاً، ورئيسة جمعية "مدراء مؤهلون لمكافحة الفساد – لبنان"، الأستاذة جينا الشمّاس. "ومن المهمّ جداً تأكيد التقرير على المخالفات في محاسبة المركزي، التي سبق وبُرهنت بالأدلة والأرقام من أكثر من جهة. نظراً لكون الجهة المدققة محايدة ومستقلة". إلّا أنّ النّقطة السلبية في التقرير تتمثّل بعدم حصول الشركة المدققة على كلّ المعلومات المطلوبة من المركزي والمدفوع ثمنها في العقد الموقع معها. حيث منعت من الحصول على بيانات محددة، وإجراء مقابلات مع الموظفين الحاليين أو السابقين بحجّة السرية المصرفية. "وهو يستوجب الطّلب من حاكم المصرف المركزي بالوكالة وسيم منصوري إعادة وضع كلّ هذه المعلومات في تصرّف شركة التدقيق من أجل استكمال مهامها والخروج بتقرير نهائي متكامل يعطي صورة واضحة عن الفترة المدقق فيها. خصوصاً أنّ التقرير الصادر هو أولي بحسب توصيف الشركة"، تؤكّد الشماس.
التزوير في الميزانية
من المخالفات الفاقعة التي أظهرها التدقيق، والتي كانت سبباً أساسياً في تسريع الانهيار هي تسجيل النفقات المسبّبة للخسائر كأصول في ميزانية المركزي. وذلك بالاستناد إلى نظام محاسبي خاص يعتمده بموافقة المجلس المركزي. وهذا ما يتناقض مع تصريح بـ "عظمة لسان" الحاكم السابق رياض سلامة في شهر أيار من العام 2020 قال فيه إن "المركزي اللبناني يعتمد المعايير الاوروبية للمحاسبة في المصارف المركزية". وتنصّ هذه المعايير بحسب الشماس على "عدم جواز تسجيل النفقات كموجودات، إلّا إذا كان المركزي على يقين بإمكانية تحقيق ربح منها في العام القادم". المفارقة أنّ حاكم المركزي لم يكن متأكدا من عدم إمكانية تحقيق الأرباح فحسب، إنّما استمر باتباع هذه الطريقة على سنوات رغم تسجيله الخسائر. "وهذه المخالفة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في ادعاء هيئة القضايا في وزارة العدل على سلامة ومحاسبته عليها، لأنّها تعتبر بكل بساطة تزويراً"، برأي الشماس.
المحاسبة والقضاء
على غرار تسجيل النفقات كأصول، تحفل ميزانية المركزي بالكثير من التجاوزات المحاسبة الفاقعة كاحتساب الموجودات والمطلوبات مرة بقيمتها الفعلية ومرة بقيمتها الاسمية. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، يسجل المركزي ما يحمله من سندات "يوروبوندز" بقيمتها الاسمية 5 مليار دولار فيما لا تتجاوز قيمتها الفعلية 320 مليون دولار. هذا فضلا عن التلاعب بسعر الصّرف وتوظيفه في خدمة القيود المحاسبية. وتتخوف الشماس من أن يعجز القضاء عن ملاحقة هذه المخالفات. "وذلك بسبب عدم قدرته على تحديد ما إذا كانت البيانات المالية المعروضة أمامه مزوّرة. كأن تكون الميزانية تتضمّن اقتطاع قسم من النفقات ووضعها في المطلوبات لأنّهم يقعان في الجهة نفسها من الميزانية، وذلك كي لا تظهر الخسائر على أنّها كبيرة. وبالتالي تصبح الموجودات أكبر من الحقيقة. وبالتالي هذا يعتبر جرما تزويرياً. فصحيح أنّ هناك نصّاً عن التزوير أمام القاضي، لكن لا يوجد بين يديه ما يوضح أنّ اعتماد هذا الأسلوب المحاسبي يعتبر تزويراً.
النتائج، أين سنصل
أمام كل ما تقدم يبرز السؤال: هل سيلاقي التدقيق الجنائي مصير ما سبقه من تقارير محلية ودولية كشفت المخالفات في حسابات مصرف لبنان؟ أم ستحول المعلومات إلى القضاء للمباشرة بالتحقيقات وإجراء المقتضى؟ وهل يمكن للنيابة العامة المالية التحرك تلقائيا وأخذ صفة الادعاء؟
كل هذه الأسئلة تعيدنا إلى مربع العقد الاول، الذي أدرج به بند ينص على "عدم إمكانية استعمال التقرير إلّا بحدود ضيّقة جداً"، يقول مصدر حقوقي. "وهذا هو مصدر الخطر الحقيقي". فالتدقيق الذي نصفه باللغة العربية بالجنائي، هو تدقيق تشريحي يعني البحث عن الدلائل التي أدّت إلى وقوع المشكلة. ومن هذه الزاوية لا أهمية له إن لم يستتبع بالمحاسبة. فهو ليس ممارسة "الفنّ للفنّ"، إنّما ضرورة استتباعه بالقضاء.
مسار غير مشجّع على المحاسبة والمتابعة
بالنظر إلى مسار تعامل السلطة السياسية مع تقرير التدقيق الجنائي، وقبله مع تقريري التدقيق المحاسبي والمالي لكلّ من KPMG و Oliver Wyman يمكن القول أنّ الامل بالمحاسبة شبه معدوم. ففي الأول من آب الحالي وبعد استحصال مجموعة من الحقوقيين المهتمّين بالشأن العام على قرار من قاضي الأمور المستعجلة للحصول على تقريري KPMG و Oliver Wyman من وزارة المالية، عمدت المالية إلى إرسال التقريرين إلى مجلس الوزراء بموجب كتاب رسمي. والمفارقة أنّ التقريرين صادران في العام 2021. ما يعني أنّ الماليّة تحفّظت عليهما لمدّة عامين. وبدلاً من نشرهما بشكل رسمي جرى تسريبهما إلى إحدى الصحف المحلية. والأمر نفسه حصل مع تقرير "الفاريز"، حيث لم تسلّم المالية التقرير إلى الجهات الطالبة رسمياً وبواسطة القضاء إنّما جرى تسريبه إلى الوسيلة الإعلامية نفسها، قبل حتى أن يرسل إلى مجلس الوزراء.
في كلّ مرّة كنا نحضر "صفّ" المدقّق اللغوي والمدرّب على الإلقاء عمر ميقاتي، كان يستشهد دائماً بما انتهجه والده، لتحفيزنا على الاستفادة مما نتعلّمه. فالفنان نزار ميقاتي كان يضع فوق مكتبه في الاذاعة اللبنانية لوحة مؤلّفة من كلمتين فقط، تختصر كلّ شيء: "المتابعة أهمّ". وفي هذا السياق لا يسعنا أن نقول في زمن التدقيق الجنائي والعقوبات الدولية على الحاكم رياض سلامة إلّا ما هو مشابه: "المحاسبة أهمّ".