شكّلت منصّة صيرفة عيّنة من "صناعة الوهم" التي لا تملّ المنظومة من نفخها بـ "هيليوم" التّخدير
بكل ما تختزله السنوات من قهر حفر عميقاً في ملامحه الطيبة، كان أحد الزملاء المصورين يتذمّر من توقّف العمل على منصّة صيرفة، خلال ملتقى اقتصادي في بيروت. "قنص" صورة لسياسي "كبير" يدخل القاعة محاطاً بمرافقيه، واستدار قائلاً "والله كان آدمي هالرياض (رياض سلامة)، كنّا نستفيد بكمّ مليون "إكسترا" بالشّهر.. طاروا".
شكّلت منصّة صيرفة عيّنة من "صناعة الوهم" التي لا تملّ المنظومة من نفخها بـ "هيليوم" التّخدير. فما يحقّقه البعض من أرباح عبر شراء الدولار على المنصّة، وبيعه بسعر أعلى في السّوق السّوداء، ما هو إلّا دين عليه، سيدفعه مضاعفاً. وكلّ الحجج التي تساق عن أنّ صيرفة "تدّور الأموال"، ولا تكلّف المركزي بشيء، يمكن مجابهتها بسؤال واحد، إذا كانت فعّالة إلى هذه الدرجة لماذا لم تعتمد كبديل عن تثبيت سعر الصرف، الذي جرّ كل أشكال الويلات على الاقتصاد؟ لا جواب.
تحدّيات توقّف "صيرفة"
في جميع الحالات فإنّ "بالون" صيرفة قارب على الانفجار. وهو سيترك حتماً تداعيات على القطاع العام وموظّفيه، وعلى سعر صرف الدولار. خصوصاً مع تعقّد إقرار عقد الاستقراض من المركزي، والنّقل عن نوّاب الحاكم اعتزامهم تغيير آليّات العمل على المنصّة بشكل جذري.
- موظّفو الدّولة سيعجزون عن تحويل رواتبهم إلى الدولار، وسيتعمّق شلل المرفق العام بالإضرابات. - الطّلب على الدولار من السوق الموازية سيعود إلى الارتفاع بعدما يتحوّل الموظفون إلى "شراة" للعملة الصعبة، بعدما كانوا "باعة" في الفترة السابقة.
- سيجد مصرف لبنان نفسه مضطرّاً إلى تمويل الدولة بالعملة الوطنية، ما سيعاود تضخيم الكتلة النقدية بالليرة. وبالتالي تشكيل المزيد من الضغوط على سعر الصّرف.
- سيؤدّي انحلال الدّولة إلى فقدان الثّقة كلّياً بعملتها الوطنية، ما يدفع للتخلّي عنها لصالح الدّولار، حتّى في أبسط المعاملات.
- ستفشل موازنة 2023، في حال إقرارها في المساهمة بتنشيف الليرات من خلال زيادة الرسوم والضرائب بشكل هائل. وذلك بسبب تشكيل الاقتصاد الرّديف ما لا يقلّ عن 50 في المئة من حجم الاقتصاد.
الدول تحذّر رعاياها
صناعة الوهم لا تتوقّف على السياسة النقدية، إنّما تتعدّاها إلى السياسة الاقتصادية من خلال أمرين:
الأمر الأوّل، بناء توقّعات متفائلة جداً على موسم سياحي في بلد "يرقص على حافّة الهاوية" أمنياًّ، وليس فقط اقتصادياً. إذ من المتوقّع تراجع ضخّ العملة الصعبة في الاقتصاد من قبل السّيّاح والمغتربين، بالتزامن مع تعمّد كثر من رعايا الدّول العربية والأجنبية قطع إجازاتهم مبكراً والعودة إلى دولهم مع ارتفاع منسوب التحذير من التواجد في لبنان، وإلغاء الحجوزات للقادمين في الفترة المقبلة.
فالسفارة السعودية طالبت في بيان رعاياها بمغادرة الأراضي اللبنانية بسرعة. مناشدة إيّاهم أهمّيّة التقيّد بقرار منع سفر السعوديين إلى لبنان. وأهابت سفارة دولة الكويت بمواطنيها المتواجدين في لبنان التزام الحيطة والحذر والابتعاد عن مواقع الاضطرابات الأمنية في بعض المناطق، والتقيّد بالتّعليمات الصّادرة عن السّلطات المحلّيّة المختصّة. وطلبت السفارة الألمانية من مواطنيها في لبنان الاتصال وتحديث بياناتهم وأماكن تواجدهم والابتعاد عن منطقة الاشتباكات (مخيم عين الحلوة – جنوب لبنان).
الأمرالثاني، تسويق خيار دولرة أسعار السّلع والمواد الاستهلاكية، باعتباره محفّزا لتراجع الأسعار، فتبيّن العكس. حيث نصّت خطّة نوّاب حاكم مصرف لبنان على "قيام وزارة الاقتصاد بفرض البيع بالتجزئة بالليرة خلال شهر". وهو الأمر الذي يسمح للمصرف المركزي التدخّل في سوق القطع من أجل الحفاظ على التوازن في حال تحقيق بقيّة الإصلاحات المطلوبة، وفي مقدمتها قانون "الكابيتال كونترول".
المرحلة الأخطر
تسارع التطوّرات الاقتصادية، النّقدية، السياسية والأمنية تدفع للاعتقاد بأنّ لبنان في مخاض عنق الزجاجة. "إمّا يخرج ويطلق صرخة تنشّق الاوكسيجين، وإمّا يبقى عالقاً، ويختنق"، يقول عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي الدكتور أنيس بو دياب. "مع التّأكيد أنّ المرحلة الراهنة، ولغاية منتصف أيلول لن تشهد تبدّلات عنيفة على صعيد الوضع النقدي. وسيبقى سعر الصّرف مستقرّاً في حدود الأسعار الرائجة حاليا بين 89 و90 ألف ليرة. وهذا يعود إلى الضّغط على المضاربين لمنع التّحرّك هذه الفترة، والتأثير سلباً على استقرار سعر الصّرف".
على الرّغم من الاستقرار المصطنع، فإنّ لبنان يقبع في مرحلة مصيريّة تصنْف الأخطر منذ بدء الانهيار. وهذا لا يتعلّق بالظروف الدّاخلية فحسب، إنّما بـ "التطورات الجيوسياسية المتبدّلة في المنطقة"، يقول بو دياب، "وارتفاع منسوب الاحتقان من الحدود السوريّة العراقيّة إلى اليمن، الذي ينذر بانفجار محتمل. ولعلّ لبنان هو البيئة الاخصب لتنفيس الوضع. وعين الحلوة نموذج مصغّر".
التّهديد بفوضى اجتماعية
هذا الواقع سيرخي بثقله فوق أكتاف شريحة أساسية من المواطنين اللبنانيين، تتمثّل بموظفي القطاع العام في السلكين المدني والعسكري. وتهدّد بخطر جدّي قد يشكّل مدخلاً للفوضى الاجتماعية، ولاحقاً الأمنية. إلّا أنّ حلّ هذه الازمة لا يتمثّل ببقاء منصة صيرفة، أو إبرام عقد الاستقراض بالدّولار، ومراكمة دين من أموال المودعين يستحيل على الدّولة سداده. وبحسب بودياب فإنّ السؤال الجدّي هو "أين تذهب إيرادات الدولة في حال سلّمنا بما يصرّح به المسؤولون؟ فوزير الأشغال قال إنّ "عائدات المطار 250 مليون دولار، ومن 10 ملايين دولار شهريا من المرفأ. ما يعني أن عائدات المطار والمرفأ وحدهما تقارب 370 مليون دولار. هذا عدا عن الضّرائب والرّسوم على المستوردات، التي بلغت 19 مليار دولار في العام 2022، والرّسوم على صفيحة البنزين.. وغيرها الكثير. وعليه يجب تمويل نفقات الدولة من مواردها وعوائدها والكفّ عن استهلاك الاحتياطي الإلزامي. أمّا بالنّسبة للنفقات بالدولار فيجب إيجاد الآلية الفعّالة للاستفادة من حدود 13 مليار دولار تدخل الاقتصاد سنويّاً من باب تحويلات المغتربين وما ينفقه السيّاح".
يؤكّد الخبراء والاختصاصيين أنّ المخارج الاقتصادية للأزمة لم تقفل بعد، مع العلم أنّها تضيق كلّ يوم أكثر من الآخر. والحلّ السياسي الواسع المترافق مع تحقيق الإصلاحات الجدّيّة كفيلان ببدء الخروج من الانهيار قبل أن تقفل جميع الأبواب دفعة واحدة.