بين تشرين الثاني وكانون الثاني، كان يقع في "قديم الزمان" موسم تجاري كامل، ينتظره الباعة من عام إلى آخر. ربع عام من "حمى" الحركة والبركة، تباطأت أيامه على مدار السنوات لتتحول دهرًا يمر متثاقلًا على أصحاب المصالح. لم يعد "خريف – شتاء" الأسواق التجارية في لبنان يشبه نفسه بالشكل والمضمون. أصبح "نوستالجيا". كلّ عام يترحّم التجار على العام الذي سبقه.
في المضمون، لم تعد المبيعات خلال هذه الفترة من العام تتجاوز 30 في المئة، وهذا ما كانت عليه في عقد التسعينيات وبداية الألفية الثانية، وفي بعض السنوات الملاح التي سبقت الانهيار. أمّا في الشكل فقد استعارت الأشهر الثلاثة هذه، عبارات التنزيلات المتنوعة من شهر التسوق الذي يحلّ في الأول من شباط، ولصقتها بالأحمر العريض على واجهاتها. وبغضّ النظر عن صحّة الحسومات التي تصل نسبتها إلى "حرق الأسعار"، فإنّ "التقويم التجاري" قد اختلّ في لبنان، والبضائع الجديدة أصبحت تباع في "الأوكازيونات".
"الجمعة الأسود" يحدث فرقًا طفيفًا
"الحركة في الأسواق ما زالت إلى عشية عيد الميلاد خجولة"، تفيد مصادر جمعية تجار بيروت التي يترأسها نقولا شماس. "والحركة المجمّعة لكلّ القطاعات التجارية انخفضت بنسبة 70 في المئة إلى نهاية العام. مع العلم أنّ نسبة التراجع قد تزيد عن هذا المعدل في بعض القطاعات". وباستثناء ارتفاع نسبة المبيعات بشكل ملحوظ يوم الجمعة الأسود "Black Friday"، الذي صودف في 29 تشرين الثاني، وشهد حسومات كبيرة في مختلف المتاجر المحلية والأجنبية، فإنّ بقية الأيام خلال هذه الفترة لا ترقى إلى المستوى الذي كان سائدًا سابقًا. وقد أتاح هذا اليوم للتجار التضحية بالأسعار وبيع بعض المخزون المجمّع وغير المصرّف بسبب الحرب، وتدهور الأحوال المعيشية. ومن المهم التفرقة بين قيمة المبيعات الفعلية المحقّقة، وأعداد المشاة في الأسواق والمجمّعات التجارية. فالظاهرة الأخيرة لا تعبّر عن تحسّن الاوضاع"، تؤكّد المصادر.
افتقاد المغتربين
الفرق بين العام الحالي والذي سبقه هو "تراجع أعداد المغتربين الذين أصبحوا يمثلون المحرّك الأساسي للاقتصاد"، برأي عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي عدنان رمال، نظرًا إلى محدودية شركات الطيران التي استأنفت عملها على خط بيروت بعد توقف الحرب بشكل مفاجىء في 27 تشرين الثاني الماضي، من جهة، وإلى تغيير الكثير من المغتربين خططهم لتمضية فرصة الأعياد من جهة ثانية، وإلى ارتفاع أسعار التذاكر من جهة ثالثة". يضاف إلى هذا العامل، بحسب رمال "تداعيات الحرب التي استمرت حوالى العام، وأنهكت الاقتصاد، وألحقت الخراب بالمناطق والمدن، وزادت معدّلات البطالة، وأضعفت القدرة الشرائية للكثير من العائلات وألبستها الأسود حدادًا على الشهداء والمصابين". وعلى الرغم من كلّ هذه الظروف يمكن وصف حركة المبيعات بعد وقف إطلاق النار وحلول موسم الأعياد بـ "المقبولة" مقارنةً بالأشهر السابقة.
مخاطر التهريب
يفترض بنسبة المبيعات في مختلف القطاعات التجارية والخدماتية أن تشكل خلال هذه الفترة حوالى 30 في المئة من مجمل أرقام العام"، تؤكّد مصادر التجار. لكن هذا لم يحدث نتيجة ازدياد معدلات البضائع المهرّبة من سوريا ذات الأسعار المتدنية، ولا سيما الخضار والفواكه الطازجة والمجففة والحبوب، بالتزامن مع تراجع حركة التصدير"، يقول التاجر بسام سنّو. الأمر الذي يثير الخشية على مصير المنافسة في القادم من الأيام، خصوصًا في ظلّ انفتاح سوريا وفتح حدودها مع تركيا مقابل تشريعها مع لبنان. وفي حال عدم ضبط التهريب عبر المعابر الشرعية وغير الشرعية، وتعديل الاتفاقيات التجارية بين البلدين، فإنّ الوضع سيكون أسوأ.
التضخّم يرتفع برغم التخفيضات بالأسعار
في الوقت الذي يتحدث فيه التجار عن تخفيض الأسعار بسبب تسهيل المبيعات وزيادتها، بيّنت أرقام الإحصاء المركزي تسجيل مؤشر أسعار الاستهلاك في لبنان لتشرين الثاني 2024 ارتفاعًا وقدره 2.3 في المئة مقارنةً بتشرين الأول 2024. أمّا على مستوى سنوي فقد بلغ التغير لمؤشر أسعار الاستهلاك عن تشرين الثاني 2024، 15.38 في المئة مقارنةً بتشرين الثاني 2023. وهذا يعني ببساطة أنّ مختلف الأسعار ارتفعت خلال عام بنسبة فاقت 15 في المئة. وهو ما يثير العديد من التساؤلات عن صحة تراجع الأسعار، خصوصًا أنّ سعر الصرف بصفته المسبّب الأول للتضخم في لبنان ظلّ مستقرًا طوال تلك الفترة عند حدود 89500 ليرة مقابل الدولار. وعلى الرغم من كون رقم التضخم السنوي مقبولًا مقارنة برقم 222 في المئة، الذي وصله في شباط 2023، فإنّه يعتبر مهولًا على الصعيد العام. فسياسات الفيدرالي الأميركي المتعلّقة بتخفيض سعر الفائدة مثلًا مرتبطة بمدى القدرة على لجم التضخم وتخفيضه من 2.3 في المئة إلى نحو 2 في المئة. في حين أنّ الرقم يمر مرور الكرام. ويعود سبب الارتفاع بحسب تقديرات رمال إلى "ظروف الحرب التي رفعت كلفة النقل والإيجارات واليد العاملة وتراجع انتاج بعض السلع وتقديم الخدمات، وهذا ما زاد الطلب وققل من العرض، وخصوصًا على صعيد مناطقي". وعليه، فإنّ "التضخم ظرفي، غير حقيقي. لن يلبث أن يخفض أكثر في الأشهر المقبلة. لأنّه غير ناجم عن نمو مفرط أو ضخ للأموال. ومن دون أيّ تغير باسعار السلع في الخارج".
ميزان المدفوعات يحقق فائضًا
إلى ذلك، بيّنت أرقام الاقتصاد الكلّي تحقيق ميزان المدفوعات (ﺳﺠﻞ ﻣﺤﺎﺳﺒﻲ ﺗﺪرج ﻓﻴﻪ اﻟﻤﻌﺎﻣﻼت اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻢ ﺑﻴﻦ اﻟﻤﻘﻴﻤﻴﻦ ﻓﻲ اﻟﺪوﻟﺔ والخارج ﺧﻼل عام) لفائض فاق 8 مليارات دولار منذ بداية العام. وإذا استثنينا فائض قيمة الذهب المحتسب والمقدر بحوالى 7.4 مليار دولار، فإنّ ميزان المدفوعات يبقى إيجابيًا. وذلك بعد سنوات من العجز المفرط بدأت في العام 2011 وتجاوزت إلى العام 2022، 33 مليار دولار. ويعود هذا الفائض، بحسب رمال، إلى العديد من الأسباب، أهمها:
- انخفاض الاستيراد والتحويلات إلى الخارج بسبب الحرب، وهذا ما يؤكده انخفاض نشاط الحاويات بنسبة 8.4 في المئة في تشرين الأول الماضي ونشاط إعادة الشحن بنسبة 28 في المئة.
- زيادة تحويلات المغتربين لذوييهم وللادخار.
- ضخ الأموال وتدفق المساعدات للنازحين.
- صرف الأموال بالدولار لتلبية الحاجات.
عام جديد حافل بـ "ضباب" التحديات يدخله لبنان من دون كشّافات المؤشّرات الدقيقة والإصلاحات على مختلف المستويات. فالتضارب الكبير في الأرقام والمعطيات المضافة إلى الفروقات الاجتماعية والتناقضات العميقة بين المكونات الاقتصادية ليس دليل عافية، إنّما أشبه بـ"الاشتراكات" التي تصيب المريض على فراش الوفاة. وإذا لم تثبت المؤشرات الحيوية الأساسية وتعالج الاختلالات فإنّ المستقبل، لن يكون أفضل في جميع الحالات.