ارتفع في الأيام الأخيرة منسوب قلق المصارف المحلّية من الاستيقاظ، صباح السابع من آذار المقبل، على كابوس تخلّف الدولة اللبنانية عن إعادة جدولة الديون بالعملة الأجنبية. فأكثر ما تطمح إليه المصارف قبل أقل من أربعة أشهر على مضي خمس سنوات من التخلّف عن السداد، تمديد مهل استحقاق الفوائد منعًا لسقوطها بمرور الزمن. إذ لا شيء إلى اليوم يوحي بإمكان قيام لبنان بعملية إعادة الهيكلة المعقّدة والشائكة لسندات "اليوروبوندز" الموزّعة على أفراد وصناديق استثمارية ومصارف وشركات تأمين في أصقاع العالم.

أوحت كلمة الأمين العام لجمعية المصارف الدكتور فادي خلف أنّ المصارف الحاملة سندات الدين بالعملة الأجنبية، "واقعة بين شاقوفين". فلا هي قادرة على التفريط في حقّ مودعيها ومساهميها مطالبةً بفوائد السندات وأصل المبلغ بالطرائق القانونية، ولا هي قادرة على مقاضاة الدولة، وفتح عيون الدائنين الدوليين للسيطرة على أصولها وزيادة مشكلاتها.

مخاطر الإدعاء على الدولة

في افتتاحية التقرير الشهري لجمعية المصارف، قال خلف: "حقّ المصارف في المطالبة بالفوائد على سندات اليوروبوندز سيسقط في حال عدم تحريك الدعاوى القضائية ضدّ الدولة قبل انتهاء مدة مرور الزمن البالغة خمس سنوات". وأخطر من ذلك أنّه "في حال مرور ست سنوات من دون رفع دعاوى قضائية على الدولة، ستسقط أيضًا حقوق المصارف في المطالبة بأصل هذا الدين. هذا الوضع يشكّل تهديدًا مباشرًا لحقوق المودعين الذين أودعوا أموالهم المصارف، وعلى حقوق المساهمين، وهذا ما يضع المصارف في موقف لا يمكن التهاون فيه". في المقابل، فإنّ رفع دعاوى قضائية على الدولة، قد يؤدّي إلى نتائج تعجز الدولة عن تحمّلها، منها: وضع المزيد من الضغوط على ما تبقّى من أصولها. وتحريك المياه الراكدة وتحفيز حملة السندات الدوليين على اتخاذ إجراءات مشابهة، وهذا ما يفاقم الأزمة بدلًا من حلّها. وعليه لا تزال المصارف تتريّث في رفع الدعاوى بانتظار حلّ توافقي، بشائره لم تظهر بعد برغم الوضع الحرج.

أصل المشكلة

للتذكير فقط، دأبت الدولة اللبنانية قبل الانهيار بسنوات عدة على الاستدانة بالدولار. وكانت باكورة الديون مبلغ ملياري دولار في العام 1998، حين أجاز قانون الموازنة العامة لذلك العام إصدار سندات خزينة بالعملة الأجنبية "يوروبوندز" في إطار إعادة هيكلة الدين العام. واشترط قانون الموازنة آنذاك تسديد جميع هذه السندات المصدّرة نهائيًا في موعد لا يتعدّى ثلاثين سنة من تاريخ بدء إصدارها، وتحديد نسب الفوائد على هذه السندات وفقًا للمعدلات الرائجة في السوق العالمية على ما يماثلها في الخارج. على أن يتم ذلك بموجب قرار مشترك يصدر عن وزير المال وحاكم مصرف لبنان.

بعد ذلك، "استذوقت" الحكومات المتعاقبة الاستدانة بالدولار لتأمين حاجات الدولة كبديل سهل عن الإصلاح. وزرعت في عقول العامّة والمسؤولين فكرة أنّ حمل المصارف التجارية ومصرف لبنان النسبة الكبرى من هذه الديون يحوّلها إلى "محلّية" ويجنّب البلد مخاطر الاستدانة من الخارج. وعدا خطأ هذه النظرية جملة وتفصيلًا، بدأت الديون في الازدياد، حتّى وصل أصل الدين عشية الانهيار إلى أكثر من 30 مليار دولار. وبحسب آخر المعطيات المتوفّرة، فإنّ محفظة سندات الخزينة اللبنانية المصدّرة بالعملات الأجنبية "Eurobonds"، قيمة الاكتتابات الإسمية زائدًا الفوائد المتراكمة زائدًا المتأخرات، بلغت ما يوازي 39485 مليون دولار، في نهاية كانون الثاني 2023 مقابل 39248 مليونًا في نهاية كانون الأول 2022، و 36522 مليونًا في نهاية كانون الأول 2021. أمّا بخصوص محفظة المصارف التجارية من هذه السندات فقد بلغت في نهاية كانون الثاني 2023، 2900 مليون دولار صافية من المؤونات، مقابل 2934 مليونًا في نهاية كانون الأول 2022 و 4419 مليونًا في نهاية عام 2021.

انهيار قيمة السندات والتخلّص منها

مع إعلان لبنان التخلّف عن سداد الديون في 7 آذار 2020، بدأت قيمة السندات اللبنانية المحددة بـ 100 دولار للسند الواحد تهبط بشكل دراماتيكي حتّى وصلت إلى نحو 5.7 دولار في العام 2024. وقد ترافق هذا الانهيار مع تخلّص المصارف من السندات التي تحملها بأسعار رخيصة لجملة من الأسباب، أهمّها تأمين السيولة لتلبية متطلّبات تعاميم مصرف لبنان زيادة الرأسمال. ولعدم اضطرارها إلى أخذ مؤونات على السندات بنسبة تصل إلى 50 في المئة كما طلب المركزي، كون السندات ديونًا مشكوكًا في تحصيلها. ولتجنّب الضغوط السياسية في عدم مقاضاة الدولة في حال تعثّر الدفع أو إعادة الهيكلة. وعليه، تراجعت حصّتها بشكل كبير كما يظهر في تقرير جمعية المصارف. وباستثناء سندات بقيمة 5 مليارات دولار ما زال يحملها مصرف لبنان، فإنّ القيمة الكبرى من السندات أصبحت في أيدي جهات خارجية وصناديق استثمارية عالمية.

التحسّن في أسعار السندات

منذ أيلول 2023 بدأت أسعار السندات اللبنانية في الأسواق الدولية بالتحسن على نحو ملحوظ، إذ تجاوز سعرها 12 سنتًا للدولار أخيرًا. وقد سجّلت سندات اليوروبوند اللبنانية هذا العام أفضل أداء عالمي من بين جميع السندات السيادية في الأسواق الناشئة مع المكاسب التي حقّقتها في الأشهر الثلاثة الماضية (أنظر الرسم البياني). ويعكس هذا الارتفاع "تحسّن معنويات المستثمرين مدفوعًا باحتمال حدوث اختراقات سياسية، وبالتالي الإصلاحات الاقتصادية"، برأي المستثمر والخبير في الأسواق المالية الناشئة صائب الزين. "ويعتمد تحقيق المزيد من التقدم المستدام على قيام الطبقة السياسية في لبنان وجميع أعضاء البرلمان على وجه التحديد بتحقيق المعالم الرئيسية بدءًا بانتخاب رئيس ذي صدقية وتعيين رئيس وزراء جدير بالثقة، ومن ثم تشكيل حكومة مختصّة تنفّذ إصلاحات اقتصادية هيكلية، بما في ذلك ضبط الأوضاع المالية وإعادة هيكلة الديون".

منذ أيلول 2023 بدأت أسعار السندات اللبنانية في الأسواق الدولية بالتحسن على نحو ملحوظ، إذ تجاوز سعرها 12 سنتًا للدولار أخيرًا.

السعر اصطناعي

من الجهة الاخرى، يرى الخبير المصرفي نيكولا شيخاني أنّ هذا الارتفاع "اصطناعي وليس طبيعياً، وهو ناجم عن عمليات بيع خارج البورصة، "Over-the-counter"، عبر شراء سندات اليوروبونز بأعلى من سعرها الفعلي، وبكمّيات تداول قليلة جدًا. وهذا ما يمثّل، برأيه، "تلاعبًا بالسندات من أجل رفع أسعارها وتعزيز موقع الجهات الحاملة لها قبل الوصول إلى التفاوض مع الدولة على إعادة الهيكلة أو حتّى الجدولة. إذ إنّ التجارب الدولية مع الدول المتخلّفة عن السداد تظهر أنّ المفاوضات على التسديد لا تبدأ بسعر يقلّ عن 20 سنتًا للدولار.

ويتوقع شيخاني أن تبقى الأسعار مرتفعة وصولًا إلى ما بين 20 و25 سنتًا من أجل الدخول في عملية التفاوض على سعر مرتفع. ويتطلّب هذا الأمر، من وجهة نظره، "تدخّل مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف لمعرفة ما يحصل في السوق، لأنّ الارتفاع في الأسعار ستتحمّله الدولة في نهاية المطاف".

تمديد المهل

إزاء هذا الواقع المبهم، يؤكّد خلف أنّ جمعية المصارف حصلت على تطمينات مبدئية من الجهات الحكومية بشأن إيجاد حلول قانونية لتمديد المهل الزمنية، تفسح في المجال لمعالجة الوضع بطريقة متوازنة. ولكنْ لم تتّخذ الدولة أية إجراءات تنفيذية حتّى الآن. ويتطلب الأمر إقرار البرلمان قانونًا يمدّد مهل استحقاق الفوائد تمديدًا يضمن حقّ حاملي السندات من مصارف وأفراد وجهات خارجية، ويجنّب الدولة الدعاوى القضائية، التي لن تصب في مصلحتها. خصوصًا أن الهيئة العامة للمجلس الدستوريّ علّقت القانون 328 المتعلّق بتعليق المهل القضائية والعقدية الى حين بتّه. وهذا يحرم لبنان من الاستفادة من تعليق المهل بين 18/10/2019 و 22/3/ 2021 (فترة كورونا).

قصة الحب بين لبنان وسندات الدين بالعملة الاجنبية تحوّلت إلى غرام وانتقام، والسبب ببساطة عدم تحقيق الإصلاحات وبقاء وزارة المال ومصرف لبنان مشتريْن الوقت للسلطة بأعلى الأسعار. وهذا التأجيل سيُدفع ثمنه غاليًا إن لم يكن بالدعاوى ووضع اليد على أصول الدولة فأقلّه بتسديد 10 مليارات دولار تمثّل ربع المبلغ المستحّق من السندات مع فوائدها.