ما يدفع للمجاهرة بأنّها موازنة ضرائب، تهدف إلى البحث عن كيفيّة إدخال الأموال للخزينة وليس صرفها
متأخّراً قرابة العشرة أشهر عن موعد وصوله، "جثم" مشروع موازنة 2023 على طاولة مجلس الوزراء بـ "طربوش" ضرائبه "الأحمر العالي". جمهور المواطنين في الدّاخل والمراقبين الدّوليّين في الخارج الذين تهيّبوا مشروع القانون هذا، بناءً على ما سمعوه من وعود إصلاحية، خاب ظنّهم. فـ "باشا" الموازنة الذي افتكروه باشا، "طلع زلمي"، على حدّ وصف المثل الشّامي الشهير عن خيبة الظنّ ممّا هو مُنتظر.
مكتوب موازنة 2023 يُقرأ من عنوانه: "65 صفحة ضرائب"، يقول خبير المحاسبة المجاز والعضو في "جمعية مدراء مؤهّلون لمكافحة الفساد" الأستاذ جوزيف متّى. "ما يدفع للمجاهرة بأنّها موازنة ضرائب، تهدف إلى البحث عن كيفيّة إدخال الأموال للخزينة وليس صرفها".
كان لافتاً تضمين الموازنة كمّا هائلاً من المواد التي تعدّل قوانين سابقة
تكريس النّهج السابق
من حيث الشّكل كان لافتاً تضمين الموازنة كمّا هائلاً من المواد التي تعدّل قوانين سابقة. وهو ما يشكّل رحلة مضنية للباحثين في فكّ "طلاسم" الموازنة. تتطلّب العودة إلى أساس القوانين ومتفرّعاتها، والتّعديلات التي طرأت عليها خلال السّنوات الماضية. أمّا في المضمون فتقدّم فرسان الموازنة، "جيش" الموازنة الجرّار من الضرائب والرسوم، بما يمثّل استمراراً للنّهج السّابق في وضع الموازنات المليئة بالتجاوزات والمخالفات الدستوريّة. ومن المعروف أنّ ما اصطلح على تسميته بـ "فرسان الموازنة" cavaliers budgétaires، هي كلّ المواد الخارجة عن نطاق الموازنة، والمتعلّقة بشكل أساسي بفرض ضرائب جديدة، تحاول الحكومة تمريرها من ضمن الموازنة. مع العلم أنّها تتطلّب الصدور في قوانين خاصّة من البرلمان. ولطالما أثارت مسألة فرسان الموازنة استياء النواب أثناء مناقشة الموازنة، إلى درجة دفعت رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى التّعليق ممتعضا على موازنة العام 2022: "هذه آخر مرّة يا دولة الرئيس بقبل بفرسان الموازنة، "مش" معقول 120 قانون بجلسة واحدة". كما وتتعرّض الموازنة سنويّاً للطّعن أمام المجلس الدستوري انطلاقا من نقطتين أساسيتين:
- فرسان الموازنة.
- عدم وجود قطع حساب.
وغالباً ما يبطل الدّستوريّ بعض المواد، ويقبل بالموازنة بشكل عام تحت حجّة "الظروف الاستثنائية"، وأنّ عدم تضمين الموازنة قطع الحساب لا يجب أن "يحول دون إقرار الموازنة نظراً لأهمّيتها، ولكي لا نقع في الفوضى في الميزانية العامة".
عدم تضمين الموازنة قطع الحساب لا يجب أن "يحول دون إقرار الموازنة لكي لا نقع في الفوضى
بعض من الضرائب الجديدة
وبهذا الشكل تستمرّ المخالفات عاماً بعد آخر، من دون أن يشذّ العام 2023 عن هذه المعادلة. فمن غير المتوقّع أن تقدّم الحكومة قطع الحساب عن العام 2022، وسبق وضمّنت الموازنة الكثير من الضرائب والرّسوم من دون أي سند تشريعيّ، ومنها:
- فرض ضريبة 2 في المئة على الخدمات المقدّمة عبر الانترنيت (المادة 27).
- السّماح للمكلّفين إعادة تخمين المخزون مع ضريبة 7 في المئة. (المادة 30).
- فرض ضريبة 3 في المئة على ودائع الأموات لدى البنوك اللبنانية (المادة 31). "وهذه الضريبة ستقتطع من المنبع، ومن غير المعروف بعد إن كانت ستضاف على ضريبة التّركة أو أنّها من ضمنها وتحسم منها"، بحسب الخبير الضرائبي والعضو في المكتب التنفيذي لتجمّع رجال وسيدات أعمال لبنان، وللجمعية اللبنانية لحقوق المكلّفين الأستاذ نديم ضاهر.
- زيادة الرّسوم على استهلاك المشروبات الغازية بقيمة 5000 ليرة، المادة (61).
أمام كلّ ما تقدّم يتبيّن أنّ الموازنة للعام الحالي خالية من أيّ رؤية إصلاحية اقتصادية إنمائية للبلد، "إنّما غايتها الوحيدة تأمين مداخيل لتمويل النّفقات، ومنها بشكل أساسيّ رواتب القطاع العام"، يقول ضاهر. ذلك مع العلم أنّ المادّة 181 اعتبرت الزيادات على الرّواتب لموظّفي القطاع العام كزودة غلاء معيشة، ولا تدخل في أساس الراتب.
صلاحيات استثنائية لوزير المالية
لعلّ أخطر ما تضمّنته الموازنة، ورد في المادة 16 – فقرة (ب) ونصّ على التالي: "خلافاً لأيّ نصّ آخر، يمكن لوزير المالية تعديل الشطور والتنزيلات بموجب قرار يصدر عنه استناداً إلى نسبة التضخّم الصّادرة عن إدارة الإحصاء المركزي". كما تضمّنت مواد عديدة في الموازنة "تضمن بشكل علني وصريح إعطاء الحقّ لوزير المالية تعديل البنود ولاسيّما الماليّة منها من دون العودة إلى الحكومة، أو نيل موافقة مجلس النوّاب بقانون، وبشكل استنسابي"، يقول متىّ. "وهو ما يشكّل مخالفة صارخة لاختزال السلطتين التشريعية والتنفيذية".
أرقام الموازنة لا تتجاوز 2 مليار دولار
بُنيت موازنة العام 2023 على أساس سعر صرف 100 ألف ليرة للدولار. وحُدّد مجموع الإيرادات والنّفقات بـ 181923 مليار ليرة أو ما يقارب مليار و819 مليون دولار، وبعجز يقارب 40 ألف مليار ليرة. وبحسب متىّ فإنّ "الموازنة لم تحدّد على وجه الدّقّة آليّة الصّرف بالنّسبة إلى العديد من أبواب الإنفاق، بل حدّدت بالليرة اللبنانية من دون تحديد على أيّ سعر صرف ستدفع. وهناك مواد عديدة مربوطة بمواد واردة في موازنة 2022 والتي وضعت أساساً وقتذاك بشكل استثنائي لفترة محدودة، إلى حين صدور موازنة العام 2023. وبالتّالي قد أعادوا التأكيد عليها بشكل أو بآخر في موازنة العام الحالي".
تكريس اللاعدالة الاجتماعية
اللافت في مشروع موازنة 2023 أنّها لم تقدّر العائدات من الأملاك البحرية، ذلك مع العلم أنّ هذا البند لوحده كفيل برفد الخزينة بما لا يقلّ عن 300 مليون دولار، بحسب المستشار المالي ميشال قزح. "في المقابل تنتفي صفة العدالة الاجتماعية عن الموازنة. خصوصاً أنّ الضّرائب المفروضة على دخل الأفراد تفوق تلك الموضوعة على الشّركات".
من رفع ضريبة الدّخل على الأفراد، إلى رسوم على المنتّجات التبغية لوحدات البيع أو مركزيات التوزيع، ودخول الشاحنات الأجنبية... "حُشِيَت" موازنة 2023 بالضّرائب والرّسوم، بما يهدّد بموجة جديدة من ارتفاع الأسعار في حال إقرارها، أو حتّى قبل إقرارها. والأسوأ أنّها لن تضمن جمع الإيرادات للخزينة في ظلّ ارتفاع نسب التّهرّب الضريبي والتهرّب الجمركي، ووقع نصف الاقتصاد في الأسود بحسب توصيف البنك الدولي.