قبل أيام قليلة تم الإعلان عن اتفاق وزراء الاقتصاد والزراعة والمالية على شراء محصول القمح بصنفيه الطري والقاسي بالإضافة إلى الشعير. واتفقوا على تشكيل لجنة من الوزارات الثلاث، من أجل وضع الاجراءات التنفيذية لعملية الشراء بأسرع وقت ممكن، حيث سيتمّ تحديد الزمان الذي ستطلق فيه عملية الشراء.

ينطبق على السياسات العامّة في لبنان المقولة المصرية الشهيرة "أسمع كلامك أصدقك، أشوف أفعالك أستعجب". فالمسؤولون الذين ملأوا الساحات ضجيجاً بالتشجيع على تحقيق "الأمن الغذائي الذاتي"، وصولاً حتى زراعة شرفات المنازل، فشلوا العام الماضي في شراء موسم القمح من المزارعين. مُلحقين بهذه الفئة الهشّة خسائر جسيمة نتيجة التوسّع بالمساحات المزروعة، اعتماداً على الوعد بشراء المحصول. فهل يتكرّر الامر نفسه هذا العام؟

الحكومة نكثت بوعدها

الوعود بشراء القمح أعادت المزارعين إلى العام الماضي. حيث منعت الحكومة التصدير، ولم تلتزم بالتعهّد الذي أطلقته قبل الانتخابات النيابية في أيار 2022 بشراء كل محصول القمح من المزارعين. "فعلق القمح في المخازن لغاية آذار العام الحالي"، يقول رئيس نقابة مزارعي القمح والحبوب في البقاع نجيب فارس. "وخسر المزارعون قرابة 80 دولار في الطن الواحد نتيجة تراجع سعر القمح عالمياً من 430 دولار في تموز 2022 إلى حدود 350 دولاراً مطلع العام الحالي. وبلغ مجموع الخسائر حوالي 3.2 مليون دولار، بالاستناد إلى أنّ الكمية المنتجة كانت تقدر بحوالي 40 ألف طن".

آلية فاشلة للشراء

آليّة الشّراء التي تعتمدها الدولة غير منصفة بحق المزارعين، هذا إن لم نقل إنّها تفتقر إلى أبسط قواعد المنطق السليم

المشكلة في الأساس أنّ آليّة الشّراء التي تعتمدها الدولة غير منصفة بحق المزارعين، هذا إن لم نقل إنّها تفتقر إلى أبسط قواعد المنطق السليم. فالجهة الموكل إليها شراء المحصول من المزارعين والمتمثلّة بالمطاحن لا تملك المصلحة ولا الرغبة في شراء القمح اللبناني. وهي تفرض أن تكون الحبّة "فحلية"، بحسب فارس. أي كبيرة نخبوية وغنية بالبروتين. وهو ما لا يتفق مع انتاج الكثير من الحيازات غير المروية بشكل كاف من جهة، ويتناقض مع "فلسفة" شراء القمح من قبل الدولة بهدف دعم المزارعين من الجهة الثانية. خصوصاً في ظلّ ارتفاع كلفة زراعة القمح في لبنان نتيجة صغر حجم الحيازات وكلفة استئجارها المرتفعة. وأيضاً لارتفاع أكلاف الطاقة، وعدم تقديم الدولة أي مساعدة فعلية للمزارعين على غرار بقية الدولة وأبرزها تركيا. كما أنّ المطاحن التي تستلم القمح المدعوم لزوم صناعة الرغيف بسعر الصّرف الرّسمي لا ترغب بدفع ثمن القمح اللبناني بالدولار على سعر منصّة صيرفة وانتظار الدولة لتسديد الفرق. ولا مصلحة للمزارعين في المقابل في بيع القمح بغير الدولار النقدي من أجل تعويض كلفة الإنتاج، وضمان القدرة على تجديد الزراعة في المواسم اللاحقة.

الموسم مقبول هذا العام

مزارعو البقاع الغربي بدأوا قبل نحو أسبوع بحصاد القمح، فيما كان مزارعو بعلبك الهرمل قد سبقوهم بعشرة أيام. "ومن المتوقع أن يصل حجم الإنتاج هذا العام إلى قرابة 65 طنا من القمح، 90 في المئة منه قاس ولا يصلح لصناعة الخبز العربي"، بحسب فارس. وتتراوح مساحة الأراضي المزروعة على صعيد لبنان بين 100 و120 ألف دونم. "وإذا كانت الدولة راغبة فعلاً لا قولاً بشراء المزارعين بهدف دعمهم وجب عليها شراء المحاصيل بأسعار تشجيعية على غرار ما كانت تفعل الحكومات الماضية. خصوصاً مع تدنّي سعر البيع عند الحصاد بالمقارنة مع موسم الزرع. فطنّ القمح انخفض راهناً إلى 280 دولار، والتبن إلى 110 دولار، وتبن الشعير إلى 80 دولاراً. وبحسب فارس فإنّ "البيع بهذه الأسعار لن يكون مربحا للمزارع الذي تكبّد نفقات كبيرة في الفترات الماضية على الزراعة والريّ والرشّ، ومن ثم الحصاد. ويهدّد قدرته على زراعة محاصيل جديدة في العام القادم".

تصدير الانتاج

من أصل انتاج وصل إلى حدود 70 ألف طن في العام الماضي لم تسمح الحكومة للمزارعين إلّا بتصدير 15 ألف طن وبعد فوات الأوان. وقد اتفقت بحسب فارس مع عدد قليل من التجار لشراء الموسم من المزارعين على أسعار زهيدة. وذلك خلافا لمطالب المزارعين فتح عمليات البيع أمام أوسع عدد من التجار من أجل منع الاحتكار والتحكّم بسعر الشراء. "فاضطررنا إلى البيع في شهري شباط وآذار من هذا العام على سعر 350 دولاراً للطن الواحد".

العودة إلى الحديث عن شراء الدولة موسم القمح هذا العام ليس إلّا مجرّد "همروجة إعلامية"، من وجهة نظر فارس، "وليس من مصلحة أحد البيع للدولة بالآليات الجديدة التي تضعها". والمطلوب برأيه "فتح المجال أمام المزارعين لتصدير كميات القمح القاسي التي تشكّل 90 في المئة من انتاج لبنان وهي لا تصلح لصناعة الرغيف المدعوم. فالدّولة حصلت على قرض بقيمة 150 مليون دولار لشراء القمح لزوم صناعة الرغيف، فلتترك المزارع يتدبر أمره في تصريف انتاجه وتحصيل الدولارات النقدية لتغطية نفقات الإنتاج". أمّا في ما يتعلّق بالقمح الطري فيعتبر فارس أنّ أحداً من المزارعين لا يتجرّأ على زراعته بسبب تدنّي أسعاره عالمياً، وغياب الطلب الكبير عليه، وتعرّضه للآفات أكثر من القاسي. أمّا الحديث عن توزيع وزارة الاقتصاد بذار القمح الطري على المزارعين لمرّة واحدة في العام الماضي فيتناقض مع ضمان استمرار زراعته خلال المواسم اللاحقة. والمطلوب أن يكون هناك تسليم مستمر للبذار الأصيل من قبل الوزارة لضمان استمرار انتاج القمح الطري.

المزارعون لا يطالبون الدولة بشراء المحاصيل، سواء تلك التي تعود للقمح، أو للخضروات التي تزرع بقية أيام العام من ضمن الدورة الزراعية، إنّما فقط القيام بدورها. ومن هذا الدور مراقبة الحدود ومنع إدخال المنتجات المهرّبة التي تؤدي إلى خفض الأسعار وإلحاق الخسائر بهم. فنتيجة التهريب يباع اليوم كيلو الزهرة بـ 7000 ليرة، والملفوف بـ 5000 ليرة. وهي أسعار لا تعوّض كلفة النقل إلى الأسواق المركزية للخضار والفواكه "الحسبة".