يواجه لبنان استحقاقًا كبيرًا يتمثّل بجلسة إنتخاب رئيس الجمهورية والتي من المتوقّع حصولها بعد غدٍ الأربعاء. هذا الإستحقاق قد يتحوّل إلى كارثة إذا لم يعٍ المسؤولون حساسية الموقف، وهو ما سينسحب حكمًا على الواقع الاقتصادي والمالي والنقدي والاجتماعي.
لم يعد بخفي على أحد انّ الإستراتيجية الحكومية في ما يتعلّق بإدارة الشأن العام في المرحلة المُقبلة تعتمد على تمرير الوقت بانتظار صعود الدخان الأبيض من المجلس النيابي. والمعروف انّ السلطّة السياسية لزّمت إدارة هذه الأزمة بشقّها التمويلي إلى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الذي استطاع حتّى الساعة تأمين المُتطلّبات الحكومية في ما يخصّ الإنفاق العام. عمليًّا وعلى أبواب انتهاء ولاية حاكم المصرف المركزي، يُطرح السؤال عن الإستراتيجية التي ستتبعها الحكومة، وإذا ما ستستمرّ في الاعتماد على مقوّمات المركزي وعلى بديل سلامة لتمويل احتياجاتها؟
خلال مرحلة حكومة الرئيس حسان دياب، كان التّمويل الأساسي للحكومة وللاستيراد يأتي من إحتياطات المصرف المركزي بناءً على طلب حكومة دياب، التي أقرّت سياسة دعم أدّت إلى إستنزاف كل الإحتياطي من العملات الأجنبية القابل للاستخدام. أمّا في عهد حكومة ميقاتي، فقد توقّف تمويل الاستيراد وتمّ تمويل الإنفاق العام من حقوق السحب الخاصّة ومن الدولارات التي استطاع المركزي شرائها من السوق.
بالطبع شحّ الدولارات رفع سعر صرف الدولار مُقابل الليرة في السوق الموازية إلى مستويات تاريخية قبل أن يستطيع المركزي إيجاد آلية للجم هذا الإرتفاع الجنوني الذي قفز عتبة الـ 140 ألف ليرة للدولار الواحد. هذه الآلية حملت شقّين أساسيين: الأوّل نقدي وينصّ على ضخّ دولارات في السوق من قبل المصرف المركزي عبر منصة صيرفة والتعميمين 158 و161. أمّا الثاني فماليّ وينصّ على دفع الرسوم والضرائب وفواتير الخدمات العامة نقدًا بالليرة اللبنانية، وهو ما سمح بامتصاص سريع وكبير لقسم كبير من الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية المتداولة في السوق.
بالطبع هذا الأمر أثقل كاهل قسم من هيكلية المجتمع اللبناني، وبالتحديد أصحاب المداخيل المحدودة نظرًا لارتفاع الأسعار من قبل التجّار بدون حسيب أو رقيب، بالإضافة للارتفاع الكبير في فواتير الخدمات العامّة التي أصبحت مُسعّرة على سعر منصّة صيرفة. وإذا كان موضوع المقال لا يُعنى بالتّحديد بهذه النقطة، إلّا أنّه من الواجب القول إنّ هذه الطبقة من المجتمع أصبحت تعتمد بشكلٍ كبير على المساعدات، وهو ما يعني زيادة عمق الفقر المدقع الذي سيحتاج إلى عقود لمحوه!
وبالعودة إلى تمويل الحكومة لإنفاقها، هل سيستطيع المركزي الإستمرار بتأمين هذا التمويل، خصوصًا بالعملة الصعبة والمحافظة في نفس الوقت على استقرار سعر صرف الدولار مُقابل الليرة؟
الجواب على هذا السؤال له عِدّة فرضيات. لكن قبل الدخول في تفاصيل هذه الفرضيات، يجب معرفة أنّ حاكم المركزي الحالي رياض سلامة، قام بتأمين الأرضية من خلال وضع الآلية الحالية وذلك منذ بيانه الشهير عن استعداد المركزي لشراء الليرات في السوق على سعر منصة صيرفة، ومن خلال امتصاص كتلة نقدية كبيرة بالليرة اللبنانية تسمح للخلف بشراء الدولارات من السوق الذي من المفروض أنّه سيعوّم بدولارات السياح (مغتربين لبنانيين بالدّرجة الأولى) وهو ما سيؤمّن استمرارية تمويل الحكومة ولو لبضعة أشهر أقلّه بعد إنتهاء ولايته.
عِدّة فرضيات للوضع المالي الحكومي مطروحة وكلّها تتعلّق بالتطورات السياسية في المرحلة القادمة خصوصًا المسار الرئاسي الذي يشهد ظهور بوادر مواجهة كبيرة بين الأفرقاء السياسيين:
الفرضية الأولى وهي مبنية على استمرار الوضع السياسي على ما هو عليه بالإضافة إلى إستلام نائب الحاكم الأول صلاحيات الحاكم الحالي بعد انتهاء ولايته (احتمالات هذه الفرضية مُرتفعة). في هذه الحالة وفي ظلّ فرضية عدم تغيير السياسة النقدية من قبل خلف سلامة، من المتوقّع أن يكون تمويل نفقات الحكومة مؤمّن من السيّاح مع المحافظة على إاستقرار في سعر صرف الليرة مُقابل الدولار الأميركي.
الفرضية الثانية وهي مبنية على مواجهة شرسة (؟!) بين القوى السياسية وخصوصًا على خلفية الملفّ الرئاسي، وهو ما ستظهر معالمه بعد الرابع عشر من حزيران الجاري. في هذه الحالة، من المُتوقّع تراجع قدوم السياح، وبالتحديد في حال كان هناك حدث أمني خطير، وهو ما يعني تراجع قدرة المركزي على الاستحواذ على الدولارات التي يُمكنه شرائها في السوق، ومعها تراجع التمويل للإنفاق الحكومي.
الفرضية الثالثة وهي مبنية على هدنة في الصراع السياسي لتمرير الموسم السياحي لما لهذا الموسم من أهمية في منع الإنهيار شبه-الحتمي في ظل هذه الظروف، خصوصًا في ظلّ غياب الإصلاحات الخاضعة لتوافق سياسي أبعد مما يتواجد اليوم.
الفرضية الرابعة وهي انتخاب رئيس جمهورية وتشكيل حكومة مع السير في إصلاحات اقتصادية ومالية ونقدية وقضائية وإدارية، وهو أمر مُستبعد بحسب العديد من المراقبين السياسيين الذين يرون أنّ هذا السيناريو هو رهينة التوافق الإقليمي – الدولي.
الحكومة التي تُصرّف الأعمال في ظلّ إنقسام سياسي حادّ، تواجه مشاكل تصاعدية في ما يخصّ القطاع العام وأجوره، بالإضافة إلى النّقص الحادّ في العملة الصعبة، وهو ما يُقلّص قدرتها على القيام بأية إجراءات إصلاحية أو تحفيزية للإقتصاد. هذا الواقع من المرجّح أن يزداد صعوبة مع تراكم الأخطاء من قبل بعض الوزراء في ما يخصّ الحلول الواجب اعتمادها في ظلّ المعطيات المطروحة، إذ أنّ أفضلها مرّ!
يبقى القول إنّ الأمر الإيجابي الوحيد في ظلّ هذا الإطار الضبابي، المائل إلى الأسود، هو بالانتقال السلس بين حاكم المصرف المركزي ونائبه الأول، وهو ما يُوحي باستمرار الاستقرار في سعر صرف الليرة الذي هو أساس العيش الكريم في المجتمعات. وباعتقادنا، فإنّ الاستمرار في نفس السياسة النقدية هو أمر ضروري في ظلّ هذه الضبابية نظرًا إلى أنّ أيّ تغيير فيها سيؤدّي حكمًا إلى ترجمة سلبية على سعر الصرف، وهو ما سيؤثّر على حياة الملايين من اللبنانيين الذين يعيش بعضهم في ظروف أقلّ ما يُقال عنها أنّها قاسية جدًا.
في الختام، يواجه لبنان استحقاقًا كبيرًا يتمثّل بجلسة إنتخاب رئيس الجمهورية والتي من المتوقّع حصولها بعد غدٍ الأربعاء. هذا الإستحقاق قد يتحوّل إلى كارثة إذا لم يعٍ المسؤولون حساسية الموقف، وهو ما سينسحب حكمًا على الواقع الاقتصادي والمالي والنقدي والاجتماعي.