لم تمرّ الأزمة التي تسببّت فيها جائحة «كورونا» مرور الكرام على مالية الدول أجمع، فقد ألزمت هذه الجائحة الدول على إقفال إقتصاداتها (بكل ما للكلمة من معنى)، وإكتفت بنشاطات ضئيلة أساسية للإنسان، شملت بالدرجة الأولى الغذاء والصحّة. وهذا الأمر فرض من جهته إنفاقًا حكوميًا غير متوقّع لإكفاء حاجات المواطنين، ومساعدتهم خلال فترة التوقّف عن العمل، وهو ما أدخل الموازنات في عجزٍ، وفرض طبع الأموال في مُعظم هذه الدول.
وإذا كانت الفترة التي إمتدّت من اوائل العام 2021 إلى أواخره، قد شهدت بدء عملية التعافي، إلا أن الحرب الروسية – الأوكرانية التي بدأت في أواخر شباط 2022، وما تلاها من ضرب لسلاسل الإمدادات بالنفط والمواد الأولية خصوصًا الغذائية منها، أثّر بشكل كبير على النمو الإقتصادي، بحكم إلزامية رفع الفوائد لضرب التضخم في الأسعار، والذي أدّى بدوره إلى خفض إيرادات ميزانيات هذه الدول. النتيجة أيضًا كانت طبع العملة لمساعدة القطاعات الإنتاجية، ولمساعدة المواطنين والعديد من الدول الفقيرة حول العالم.
عمليًا، كل العملات تضررّت من هاتين الأزمتين (كورونا والحرب الروسية – الأوكرانية)، وبالتالي تعمد المصارف المركزية إلى تقوية إحتياطاتها من الأصول الصعبة، وبالتحديد من الذهب. وقد نشرت مجلة «ذي إيكونيميست» مقالًا بيّنت فيه أن المصارف المركزية تشتري الذهب بقوة، حيث في الربع الثالث من هذا العام زاد إحتياطات المصارف المركزية 400 طن، أي أن مجموع ما تمّ شراؤه منذ بدء العام وحتى شهر أيلول بلغ 670 طنًا. وتُضيف المجلّة أن تركيا إشترت ما يُقارب العشرين طنًا في شهر أيار الماضي، وأن الهند وقطر تستشرسان في شراء الذهب، كما أن إحتياطات أوزبكستان تتألف بثلثيها من الذهب الأصفر.
هذا التهافت على شراء الذهب من قبل المصارف المركزية، يعود إلى أن الذهب هو من الأصول التي تُعتبر ملاذًا آمنًا، وبالتالي يتم اللجوء إليها في الأوقات الصعبة، حيث يكون هناك تضخّم ومستقبل غامض كما هو الوضع حاليًا. إعتبار الذهب ملاذًا آمنًا نابع من أنه لا يتعلّق بأي إقتصاد، وهو من الأصول التي لها قيمة ذاتية منفردة ويُحصّن العملة الوطنية، خصوصًا أن التاريخ يُخبرنا أن هذا المعدن الثمين كان يُستخدم في الماضي لقياس قيمة العملات.
ومن العوامل التي دفعت العديد من المصارف المركزية إلى شراء الذهب، بالإضافة إلى الأزمة الحالية وطبع العملة، إنخفاض قيمة الذهب بنسبة 3% هذا العام. وبالتالي من المتوقّع أن يُعاود السعر إلى الإرتفاع في الفترة المُقبلة، خصوصًا إذا ما إستمرت المصارف المركزية بسياستها وبقى الغموض يلفّ الإقتصاد العالمي، مع إستمرار الغموض في ملف الحرب الروسية – الأوكرانية، وما يواكبها من عقوبات وقيود إقتصادية تحدّ من النمو الإقتصادي العالمي، وتحرم العديد من الإقتصادات من موارد أساسية للصناعة والتغذية.
ومن الدوافع الأخرى، هو الرغبة لدى بعض المصارف المركزية، بناءً لإيعازات سياسية أو خوفًا من تراجع قيمة الدولار، بالتخلص من قسم من إحتياطاتها بالدولار الأميركي لصالح الذهب الأصفر. لكن التخلّص من الدولار ليس الدافع النقدي الوحيد، فالتخلّص من الروبل كان أيضًا هدفًا لدى بعض المصارف المركزية، التي لبلدانها تجارة مع روسيا (تركيا، تركمانستان،...) ، خصوصًا مع إنفصال الروبل عن نظام «سويفت» العالمي، وهو ما يُبرر هجوم هذه الدول على شراء الذهب بهذا الإندفاع.
المُشكلة التي تواجه الأسواق المالية فيما خصّ التوقّعات بشأن الذهب، تتعلّق بالذهب الروسي الذي أصبح محظورًا في الأسواق العالمية بسبب العقوبات، حيث لم يعد المصرف المركزي الروسي يُصرّح عن كمية الذهب الموجودة لديه، وبالتالي لا يُمكن معرفة حجم التبادلات، وإذا كانت روسيا تبيع ذهبًا أم تشتري ذهبًا، جُلّ ما نعرفه هو أن روسيا صرّحت أنها ستتخلّص من خمسة عشر مليار دولار أميركي من إحتياطاتها لصالح اليوان الصيني. طبعًا شراء الذهب الروسي خاضع للعقوبات، وبالتالي، أغلب الظن قد تكون دول قريبة من روسيا أو أغنياء مجهولي الهوية من هذه الدول، هم من يشترون الذهب الروسي في عملية خفية، نظرًا إلى الرقابة الشديدة على عمليات الذهب في العالم من قبل الولايات المُتحدة الأميركية ومن قبل الأسواق المالية.
طرح الموضوع بهذه الصورة، يُعطي الإنطباع أن التخلّص من العملات في الإحتياطات المركزية أصبح هدفًا، وهذا إلى حدٍ بعيد صحيح. إلا أن ضعف العملات بالإجمال يحفظ للدولار الأميركي هيبته، ويبقى من العملات الأساسية التي قد تتحصّن بها المصارف المركزية. مع العلم أن موقف الإحتياطي الفديرالي الأميركي على هذا الصعيد هو جوهري، فأي توقف عن محاربة التضخّم، يجعل الدولار غير مرغوب به لصالح الذهب أو عملات أخرى والعكس بالعكس.
ولكن السؤال المطروح هو، إذا كان هناك من أزمة في سوق الذهب ستظهر في المستقبل مع الطلب المُستجدّ؟ تقول مجلة «ذي إيكونيميست» أنه سبق وشهد العالم أزمةً في العام 1968 مع إغلاق سوق لندن للذهب لمدّة أسبوعين، حيث إنخفض عرض الذهب بشكلٍ كبير، وشكّل هذا الأمر إشارة إلى بدء إنهيار إتفاق «بريتون وودز»، والذي كان يربط الدولار الأميركي بالذهب.
المعروف من البيانات التاريخية للذهب، أنه يحوي (كباقي المتغيرات الإقتصادية) على مكون موسمي يتمثّل بإرتفاع في شهر كانون الثاني وآذار وأيار وتموز وآب تشرين الأول وإنخفاض في الأشهر الباقية. وبالتالي، فإن المعالجة الإحصائية لسعر أونصة الذهب في الأسواق تُشير إلى أنه من المتوقّع أن يسير سعر الذهب بحسب تقلباته الموسمية، نظرًا إلى أن مكون الـ Trend يُشير إلى ثبات في الأسعار. إلا أن شراء المصارف المركزية للذهب في الفترة الأخيرة قد يُعدّل (Structural Change) من مكون الـ Trend ، وبالتالي ترتفع إحتمالات صعود سعر الذهب أكثر من السابق.
وفي لبنان، يبقى مخزون الذهب الذي يمتلكه المصرف المركزي، عنصرًا مُهمًا في الحفاظ على قيمة الليرة مُقابل الدولار، وسلاحًا قويًا في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. من هذا المُنطلق، نرى أن عملية التفاوض مع صندوق النقد يجب أن تلحظ وجود مخزون ذهب كبير (الثاني عربيًا بعد المملكة العربية السعودية)، على أن لا يتمّ المسّ والإكتفاء بإستخدامه في المفاوضات كعنصر قوّة للبنان.