بعد أيام قليلة على انتخاب دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة، نشرت صحيفة "ديلي ميل" البريطانية مقالاً تحت عنوان "فيل أهوج في غرفة الزجاج: النظام العالمي الجديد لترمب وخططه". المخاوف الحقيقية وقتها، كانت على النظام السياسي والأمني العالمي، فيما سيطر الحذر الدولي من مواقف ترمب الاقتصادية. ولم يتوقع أحد أن يعلن ترمب حرباً تجارية عالمية، لا تستثني أحداً بهدف تحقيق شعار (MAWA) "جعل أميركا ثرية مرة أخرى". فمعظم التحليلات كانت تدور في فلك إمكانية فرض رسوم جمركية بنسبة 10 في المئة بالحد الأقصى على بعض الواردات الاميركية، ورفع سقف التحدي مع الصين بشكل أساسي.

لم يخيب الرئيس الأميركي ظناً، فأعلن في الثالث من نيسان الحالي فرض تعريفة جمركية موحدة بنسبة 10 في المئة على جميع الواردات من 180 دولة، ورفعها على الدول الصديقة والحليفة، قبل العدوة اقتصادياً. ففرض على الاتحاد الأوروبي رسوماً بنسبة 20 في المئة، و25 في المئة على كل من الجارتين كندا والمكسيك، و46 في المئة على فيتنام، و54 في المئة على الصين. ولم تنجُ الدول العربية من الرسوم الترمبية إذ فرض على سوريا رسوماً بنسبة 41 في المئة، و39 في المئة على العراق، و31 في المئة على ليبيا، و30 في المئة على الجزائر، و28 في المئة على تونس، و20 في المئة على الأردن، و10 في المئة على بقية الدول العربية. وبشكل عام فقد ارتفع متوسط الرسوم الجمركية الاميركية من حدود 1.5 في المائة، إلى 22 في المئة، وهو ما يعتبر أعلى معدل للتعريفات الجمركية منذ 100 سنة.

تنقسم التداعيات الاقتصادية للرسوم الجمركية إلى شقين، أساسيين:

الأول آني، وتمثل في الخسائر الكبيرة التي حققتها أسواق الأسهم والهبوط في البورصات العالمية يوم أمس الاثنين في أول افتتاح لها نتيجة عمليات البيع الكبيرة. وذلك بعد عطلة نهاية الأسبوع التي افتتحها ترمب بالإعلان عن الرسوم الجمركية. فتراجعت البورصات العالمية والآسيوية والخليجية.

"التراجع بأسعار الأسهم لن يستمر طويلاً، بل ستعود الأسعار للارتفاع قريبا"، يؤكد الرئيس التنفيذي لشركة Advisory and Business Company علاء غانم. الانخفاض الذي شهدناه لم يحصل نتيجة انهيار في الأسواق، أو بسبب حركة تصحيحية في الأسعار، إنما نتيجة ارتفاع أسعار الخصم. ومن المعروف أن أسعار الأسهم ترتبط بعلاقة عكسية مع معدلات الخصم، وعليه كلما ارتفعت المعدلات بسبب قراءة المستثمرين المتشائمة للتوقعات المستقبلية سواء تلك المتعلقة بارباح الشركات، أو نسب النمو، ومعدلات البطالة.. كلما تراجعت أسعار الأسهم. وهو الأمر الذي يشجع المضاربين الذين يعملون على المدى القصير على البيع من أجل إعادة الشراء بأسعار أدنى. وهذا بالضبط ما يحصل اليوم، ويدفع للاعتقاد الراسخ بأن الأسعار ستستأنف صعودها قريبا. وهناك فئة أخرى من المستثمرين الجديين أكثر، الذين سيّلوا محافظهم من الأسهم، للاستثمار بالأصول المضمونة وفي مقدمتها الذهب. الأمر الذي دفع لتخطي سعر الاونصة 3050 دولاراً على الرغم من عدم الاستشعار بإمكانية تخفيض سعر الفائدة قريباً.

التحضير لأزمة مالية عالمية

الانعكاس الثاني متوسط الأجل، وهو الأخطر. إذ من المحتمل ان تدخل أميركا والعالم يما يعرف بالتضخم الانكماشي، أي ارتفاع في الأسعار مع تراجع نسب النمو. و"من المتوقع أن يدفع التخبط الكبير الناتج عن عدم وضوح الرؤية، والذي تزيكة السياسة الاقتصادية الترمبية، على المدى القصير، إلى تقويض أساسيات الاقتصاد العالمي"، برأي غانم. فـ "المستثمرون وأصحاب الشركات يترددون في زيادة استثماراتهم وتوظيفاتهم ورفع نسب الاستخدام. وإن كان هذا التردد لا يعني الدخول آنياً في انهيار اقتصادي عالمي، إلا أنه على الاكيد يعني بدء التحضير لإنهيار اقتصادي يتوقع حدوثه في العام 2027".

بين سوقي "الدب" و"الثور"

إذاً، العالم لن يدخل قريبا في "سوق الدب" وهو المصطلح الذي يعني تراجعا بأكثر من 20 في المئة بأسعار الأسهم لفترة طويلة، إلا أنه في المقابل لن يبق في "سوق الثور"، النقيض. الارتفاعات التي حققتها الشركات في العالم عموما وعمالقة التكنولوجية الاميركية خصوصا فور فوز ترامب في تشرين الثاني 2024، قوضتها السياسات الجمركية الخارجية والتقشف الداخلية. وحتى في حال تم رفع الرسوم الجمركية كلياً أو جزئياً، فيما لو حصل ترمب على مبتغاه من الدول؛ على غرار بيع الصين تطبيق "تيك توك" أو موافقة فيتنام على اتفاق تجاري.. وغيرها، فان "حالة عدم اليقين ستبقى تضغط بشدة على السياسات المالية للدول"، بحسب غانم. "ولن يتجرأ احد من حكم المصارف المركزية على اتباع سياسات منفتحة أقل تقييداً، طالما ترمب موجود في السلطة".

العودة إلى الذهب وتراجع أسعار النفط

مصائب تراجع أسعار النفط على الدولة المنتجة إلى ما دون 60 دولارا للبرميل، نتيجة اللايقين العالمي والركود، تشكل نعمة للدول المستهلكة وفي طليعتها لبنان. فمن شأن هذا التراجع تخفيض فاتورة الاستيراد التي فاقت 4 مليارات دولار في العام الماضي، ويخفف العبء على ميزان المدفوعات ومصاريف الأسر على النقل والمولدات. ومن الجهة الأخرى فان زيادة الطلب على الذهب بصفته الملاذ الآمن في الازمات من ِشأنه ان يرفع سعره، وبالتالي يزيد قيمة احتياطي الذهب الموجود في لبنان والمقدر حجمه بحوالي 287.5 طنا.

صحيح أن ما فعله ترمب زعزع الاستقرار العالمي، إلا أن رسومه مازالت أقل من تلك التي تفرضها بقية الدول على الصادرات الأميركية. فعلي سبيل الذكر لا الحصر فإن سوريا تفرض رسوما على البضائع الاميركية بنسبة 81 في المئة، والعراق 78 في المئة، وليبيا 61 في المئة، والجزائر 59 في المئة، والأردن 40 في المئة. وهناك رسوماً "مخبأة" تعتمدها الدول مثل رسم الاستهلاك الداخلي الذي يضعه لبنان على استيراد السيارات والذي يفوق 50 في المئة، مع العلم ان الرسم الجمركي 5 في المئة. وعليه كل ما يطلبه ترمب هو المعاملة بالمثل. فهل يحصّل حقوق أميركا، ويُخرج الفيل من غرفة الاقتصاد العالمي المليئة بزجاج الحروب والخضات السياسية، وتداعيات كورونا، أم يأخذ الاقتصاد والعالم إلى حيث لا أحد يتمناه. ويسيطر "سوق الدب" على العالم، وتنهار المؤسسات وتحلق أسعار السلع، وتعجز المصارف المركزية عن خفض الفوائد، ويتعذر الإقراض.. الجواب مبهم وغير معروف بدقة لغاية الان. وما على الدول إلا شد الاحزمة والانتظار.