يستمر سعر الدولار في السوق السوداء في مساره التصاعدي المُتوقّع مع غياب الحلول السياسية التي تؤمّن أرضية صلبة للجم التدهور وتأمين انطلاقة جديدة وثابتة للاقتصاد.

من المعروف اقتصاديًا الدور الجوهري للنمو الاقتصادي في عملية استقرار سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي. هذه العلاقة تمّ إثباتها سواء على صعيد الاقتصاد العالمي أو على صعيد الاقتصاد اللبناني. وبالتالي لا يمكن تخيّل أي استقرار في سعر الصرف من دون أن يكون هناك نمو اقتصادي مستدام.

سابقًا كان الاستقرار النقدي يعتمد على حجم الاحتياطي من العملات الأجنبية في مصرف لبنان، وبالتالي وعلى الرغم من الأزمات التي عصفت بلبنان (عدوان تموز 2006،أحداث 7 أيار 2008، الشغور الرئاسي، الأزمة السورية...)إستطاع هذا الاحتياط تأمين الاستقرار النقدي خلال هذه الأزمات. وخلال الفترة التي امتدّت من العام 2007 إلى العام 2010، أدى النمو الاقتصادي دورًا جوهريًا في تقوية الليرة اللبنانية حتى إن المصرف المركزي تدخل في الأسواق لبيع الليرة للحفاظ على استقرار سعر الصرف.

حجم الأموال التي دخلت إلى لبنان بُعيدّ الأزمة المالية التي عصفت بالعالم في العام 2008 والذي تجاوز الـ 19 مليار دولار أميركي، دفع بالعملة إلى مستويات عالية لم تظهر بسعر الصرف نظرًا إلى أن الاستقرار النقدي في الاتجاهين كان عنوان المرحلة.

النزف الذي حصل منذ العام 2011 مع بدء الأزمة السورية، جعل كميات هائلة من الدولارات تخرج من لبنان من باب التجارة إلى سوريا. وبحسب التقديرات عشرات مليارات الدولارات ذهبت من الاقتصاد اللبناني إلى الخارج. أيضًا أدّت الأزمة السياسية التي تمثّلت باستقالة الحريري في العام 2017، إلى خروج أكثر من ستّة مليارات دولار أميركي من لبنان تمثّلت بتحاويل مصرفية فورية. كما كان لسلسلة الرتب والرواتب دور جوهري لدولرة الودائع مع الانفلاش الكبير الذي أدّت إليه سلسلة الرتب والرواتب، بالإضافة إلى خروج قسم منها في العام 2018.

السياسة الانكماشية في القروض التي اعتمدتها المصارف اللبنانية تجاه القطاع الخاص بهدف تقليص الانكشاف على القطاع الخاص (60 مليار دولار أميركي قروضا للقطاع الخاص)، شكّلت بدء التراجع الاقتصادي والمالي للدولة اللبنانية حيث كان العام 2018 من الأسوأ من ناحية العجز في الموازنة. وضعف الإستثمارات دفع بالنمو في العام 2019 إلى تسجيل أرقام سلبية ظهرت في سعر الصرف. وزاد الطين بلِّة التضييق الدولي على حركة دخول الدولارات إلى لبنان، بالإضافة إلى تحاويل قام بها بعض النافذين. وختامها كان تعثّر الدولة مما أدّى إلى وقف مجيءالدولارات عبر القطاع المصرفي وسياسة الدعم التي ذوّبت ما بقي من احتياطي في المصرف المركزي. ولا يجب نسيان الشهية الكبيرة للمالية العامة على الدولار، وذلك منذ العام 2002 وحتى يومنا هذا.

كل هذه الدولارات التي تحدّثنا عنها كانت بالدرجة الأولى من أموال المودعين!

الثقة التي كانت موجودة أنذاك اختفت ومعها القنوات الأساسية التي كانت تؤمّن الاستقرار النقدي – عنيت بذلك النمو الاقتصادي والاحتياطي. الدولارات التي تدخل اليوم إلى لبنان من باب تحاويل المغتربين لا تدخل إلى القطاع المصرفي بحكم غياب الثقة، بل تذهب مباشرة إلى التجار من باب التجارة بالكاش مع المواطنين، وبالتالي لا يمكن لهذه الدولارات أن تذهب إلى الدورة الاقتصادية الطبيعية.

اليوم ومع اضمحلال الدولارات من المصرف المركزي، لا إمكان للأمل باستقرار سعر الصرف من دون أن يكون هناك نمو اقتصادي. هذا النمو له مقومات غير موجودة اليوم، وعلى رأسها الثقة بقطاع مصرفي متين وجذب الإستثمارات. ولتأمين هذين العنصرين، يجب إعادة هيكلة القطاع المصرفي وتأمين جو إستثماري يسمح بجذب الأموال إلى الاقتصاد، سواءً من الداخل أم من الخارج. وهنا يظهر العنصر السياسي حيث إن هذه القرارات هي حصرية للسلطة السياسية التي تتخبّط في صراع على السلطة أقل ما يُقال عنه أنه مُدّمر للكيان اللبناني.

المفاوضات مع صندوق النقد الدولي هي ممر ضروري لعودة التدفقات المالية من الخارج، ومن دون هذه التدفقات لن يكون هناك استثمارات. فالصندوق الذي سيُقرض الدولة اللبنانية ثلاثة مليارات دولار أميركي على فترة أربع سنوات ستذّهب لتمويل عجز الموازنة ولتمويل عملية توحيد سعر الصرف. أما الاستثمارات فتبقى رهينة مواقف العواصم الخليجية تجاه الواقع اللبناني، ولكن أيضًا رهينة الثقة التي لا يمكن استعادتها إلا من خلال جدّية الإصلاحات الاقتصادية التي من المفروض على السلطة السياسية القيام بها.

القراءة الأوّلية للواقع السياسي تقول إن الإصلاحات لن تمرّ بسهولة في ظل الانقسام القائم حاليًا، وبالتالي لا إمكان للدولة اللبنانية للتوقيع على اتفاق مع صندوق النقد الدولي. مما يعني استمرار تآكل الوضع الاقتصادي والنقدي واتّجاها تصاعديا للدولار في السوق السوداء.

في هذا الوقت تستمر المضاربة على الدولار في السوق السوداء، حيث يتمّ الحديث عن صرّافين يقومون بشراء الدولار على سعر أعلى من السوق السوداء وبيعه على سعر أعلى من سعر الشراء، مما يؤدّي إلى تسجيل أسعار عالية لا يمكن تبريرها بالمنطق الاقتصادي الربحي وحده، بل هناك أهداف أخرى قد تكون سياسية بامتياز، خصوصًا أننا نشهد في لبنان صراعا سياسيا محلّيا، ولكن أيضًا إقليميا دوليا يؤدّي حكمًا إلى تدخل في هذه السوق بدون أي تبرير اقتصادي. فمثلًا الارتفاع الأخير في سعر الدولار في السوق السوداء لا يمكن تبريره اقتصاديًا من ناحية أن هناك توقّعات بدخول ما يقارب مليار دولار أميركي خلال أعياد رأس السنة من السياحة، وهو ما يعني أن سعر دولار السوق السوداء يتجه إلى الانخفاض، إلا أن ما نشهده في السوق السوداء هو عكس ذلك، إذ يرتفع سعر صرف الدولار الأميركي على عكس المنطق الاقتصادي.

في الختام، يجب القول إن الخروج من الأزمة هو بيد السلطة السياسية التي تحتكر القرار الاقتصادي، وبالتالي هي الوحيدة القادرة على اتخاذ القرارات المناسبة.إلا أن هذه السلطة تعيش تخبّطًا كبيرًا يمنع وسيمنع أي استقرار نقدي، وهو ما يعني استمرار التردّي في الواقع النقدي، ومعه ارتفاع الأسعار. فهل تُغيّر المُعطيات الخارجية الواقع الحالي المرير؟ وحده الوقت قادر على الرد على هذا السؤال.