ليس بالمفاجئ ما يحصل في سعر دولار السوق السوداء، مع كل العوامل التي تُحفّز صعوده أمام الليرة، كان من المفروض على الاقتصاد اللبناني دعمها بقوة، وهو الداعم الأول لها بحسب النظرية الإقتصادية، وكان المفروض على الحكومة القيام بواجبها بحماية الليرة من المضاربة وتحفيز النمو الإقتصادي، وكان على المصرف المركزي الدفاع عنها بكل ما يملك من قدرات، ولكن للأسف لا الاقتصاد بخير، ولا الحكومة تقوم بواجبها، ولا المصرف المركزي له القدرة على الدفاع عن الليرة (إلا من خلال شفط الليرة من السوق).

تدهور سعر الصرف في السوق السوداء هو أمر مُتوقّع، خصوصًا أن هناك عوامل عدّة تُساهم وتُسبب هذا الأمر:

- أولًا : الإطار السياسي القاتم والذي ومنذ الانتخابات النيابية في أيار من العام 2018، والبلد يعيش في حال من التعطيل القاتل الذي هزّ مضاجع الاقتصاد – الداعم الأول لليرة، وضرب هيكل المالية العامة – السبب الرئيسي في الوضع الحالي، ومنع ويمنع أية إصلاحات في الاقتصاد والمالية العام والقطاع المصرفي والقطاع النقدي. فما بين حكومات تصريف الأعمال والتعطيل نتيجة حوادث الطيونة وقبرشمون، والمراوحة في إنجاز الإصلاحات المطلوبة، والفيتويات والفيتويات المضادة، طار النمو الإقتصادي وأصبح سلبيًا خلال الثلاثة أعوام الماضية ليضرب بذلك الليرة اللبنانية التي تتعلّق قيمتها بالدرجة الأولى بهذا النمو وبإستدامته.

اليوم ومع شغور موقع الرئاسة الأولى وعدم أصالة الحكومة، تظهر الأمور أكثر تعقيدًا والتوقّعات أن تطول فترة التردّي أقلّه إلى حين إعادة تكوين السلطة الإجرائية وقيام الحكومة بالإصلاحات اللازمة (إعادة هيكلة القطاع المصرفي والقطاع العام...) والتي تفتح الأبواب على مصراعيها للإستثمارات الأجنبية الوحيدة القادرة على إعادة إحياء الاقتصاد.

- ثانيًا : النمو الإقتصادي المتردّي للأسباب الآنفة الذكر، والذي تراجع بشكل كبير في العام 2020 ليضع إستقرار الليرة اللبنانية على المحك، خصوصًا مع إستنزاف الموجودات الأجنبية في مصرف لبنان. هذا النمو وإستدامته هما الداعم الأساسي لإستقرار سعر الصرف الذي تربطه علاقة ميكانيكية بهذا النمو، وبالتالي من دون نمو إقتصادي عبثًا يُمكن الحديث عن إستقرار سعر الصرف. هذا النمو، مفتاحه الأساسي هو الإستثمارات والتي لا يُمكن أن تعود إلا من باب ما ذكرناه أعلاه.

- ثالثًا : التهريب الذي يمتصّ نصف إستيراد لبنان المدفوع بدولارات مأخوذة من السوق اللبناني، سواء أكانت من منصة صيرفة أو من السوق السوداء. وهذا الطلب ارتفع بشكل ملحوظ في المرحلة التي سبقت رفع الدولار الجمركي، مما دفع العديد من التجار إلى الإستيراد بكمّيات غير منطقية، ولا يُمكن تبريرها بالتخزين فقط ! هذا الطلب على الدولار يرفع من سعر الدولار الأميركي في السوق السوداء، خصوصًا أن المعنيين لا يُريدون إظهار الإستخدام الحقيقي لهذه الدولارات وإلى أين تذهب.

- رابعًا : التلاعب بالأسعار، والذي لا يقتصر فقط على السعر بالليرة اللبنانية، بل أيضًا بالدولار الأميركي، حيث يستخدم التجار حجّة ارتفاع الأسعار العالمية عندما يناسبهم الأمر، ويتجاهلون الإنخفاض حفاظًا على أرباحهم. على هذا الصعيد، يُمكن ذكر إنخفاض كلفة الشحن بأكثر من 60% على بعض الطرق البحرية، التي لم تنعكس في الأسعار وكأن شيئًا لم يكن! هذا الأمر تعجز السلطات الرسمية عن ضبطه بغض النظر عن السبب (عدم قدرة أو تواطئ)، حيث أن النتيجة واحدة ترتفع الأسعار دائمًا ويرتفع معها سعر الصرف في السوق السوداء. وتُعتبر الفوضى الحالية فرصة كبيرة للعديد من التجار للهروب من المحاسبة وتحقيق الأرباح غير القانونية.

- خامسًا : المضاربة التي ومنذ اليوم الأول لبدء الأزمة المالية – المصرفية ، لعبت دورًا سلبيًا من ناحية أنها فاقمت الوضع من خلال تطبيقات يتم التحكم بها من قبل أصحاب نفوذ، بهدف الربح المادي وبهدف الضغط السياسي. وبحسب المعلومات المتداولة، شهدت إحدى الساحات الأربع المعروفة بالتجارة بالدولار مقابل الليرة، نشاطًا غير إعتيادي في الأيام الماضية، مع قيام الصرافين بشراء كميات كبيرة من الدولار بأسعار تفوق العادة. هذه العملية تهدف بحسب المعلومات إلى تلبية طلب آت من خارج الحدود! كل هذا في ظل عدم تدخل من قبل الأجهزة الرقابية وغياب أي قرار رسمي بملاحقة المرتكبين.

- سادسًا : طلب مصرف لبنان من الدولارات التي يُحاول الإستحواذ عليها من خلال الصرافين المُعتمدين لديه ، بهدف تمويل التعميمين 158 و161 ، ولكن أيَضًا تمويل حاجة الدولة من الدولارات ، خصوصًا الكهرباء التي تُطالب الحكومة المصرف المركزي بتأمين ما يفوق الـ 600 مليون دولار أميركي لخطّتها رفع ساعات التغذية بالتيار الكهربائي.

من هذا المُنطلق، من المتوقّع أن يستمر الوضع بالتردّي (المؤشر الأساسي لهذا التردّي هو سعر الدولار في السوق السوداء)، إلى حين إنتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة وقيامها بإصلاحات بالتزامن مع توقيع إتفاق مع صندوق النقد الدولي. ولن تنفع مئات ملايين الدولارات المتوقّعة بين 22 من هذا الشهر و5 كانون الثاني القادمة من المُغتربين اللبنانيين الذين سيمضون الأعياد في لبنان، حيث لن تُغير في الواقع، إلا من باب مساعدة بعض المواطنين على الصمود وسيكون المُستفيد الأول منها التجار.

إلى ذلك الحين، نرى أن الوضع قد يسوء بنسبة كبيرة في الأسابيع القادمة، خصوصًا بالنسبة للطبقة الفقيرة (والمتوسطة سابقًا)، وبالتحديد قسم كبير من هذه الطبقة أصبح يعيش على المساعدات التي تقدّمها جمعيات غير حكومية على مثال كاريتاس، والمقاصد والمبرّات.. وغيرها، وبالتالي إذا لم تزيد هذه الجمعيات من قيمة المساعدات للطبقة الفقيرة، فمن المتوقّع أن يتردّى الوضع بشكل مأساوي!

في ظل هذا الإطار الأسود، يُلاحظ حركة ناشطة من قبل مُستثمرين (محليين وخارجيين) يقومون بتحضيرات كأن شيئًا ما في الأفق، وينتظرون كلمة سرّ أو إشارة مُعينة لبدء إستثمارات في عدّة قطاعات، منها على سبيل الذكر، قطاع الطاقة، وقطاع الاتصالات، وقطاع الخدمات العامة. ويتم التداول بمعلومات أن بعض الشركات التابعة للدوّلة أصبحت موضوع نقاش بين الدولة وبعض المستثمرين الأجانب، حيث يُنقل عن المعنيين البحث في ثلاثة سيناريوهات:

- السيناريو الأول : ينص على بيع شركات تابعة للدولة اللبنانية إلى المستثمرين (ومنهم دول عبر شركات تابعة لها) على شكل تخلّي عن الملكية.

- السيناريو الثاني: ينص على بيع قسم من ملكية الشركة، على أن يتم الاتفاق مع المُستثمرين على بعض النقاط التي تتعلّق بتغطية الخدمات والأسعار.

- السيناريو الثالث: ينص على إعطاء إستثمار للمستثمرين على خمسة عشر عامًا، مُقابل رقم مالي يتمّ البحث به على محورين: مع المستثمر، ومع صندوق النقد الدولي ، الذي يُصر على إدخال حدّ أدنى من المال من شركات القطاع العام مع أفضلية للبيع الصافي لهذه الشركات.

وبغضّ النظر عن صحة هذه المعلومات، نرى أن الإمكانيات التي يتمتّع بها لبنان تجعل من هذه المُعطيات بارقة أمل بمرحلة من الرخاء على المدى المتوسّط إلى البعيد سينعم بها لبنان. لكن يبقى السؤال حول نقطتين أساسيتين يُحدّدان مدى كلفة الأزمة على اللبنانيين:

- الأولى: ودائع الناس والتي تتعلّق بقرار الحكومة شطب دينها لمصرف لبنان والمصارف التجارية (وهي أموال مودعين).

- الثانية: إقرار قانون الكابيتال كونترول (رهن قرار مجلس النواب)، والذي يحفظ حقوق المودعين المحليين من الدعاوى الخارجية على المصارف اللبنانية، والتي يتم ربحها بشكل شبه تلقائي في المحاكم الخارجية.