جاسم عجاقة
من دون أدنى شكّ، فشلت السلطات اللبنانية في تأمين حياة كريمة لشعبها! هذا ما أثبتته الأحداث التي عصفت بلبنان منذ إنتهاء الحرب الأهلية وحتى يومنا هذا. وتأكد هذا الأمر أكثر فأكثر بعد إحتجاجات 17 تشرين الأول 2019 حيث وصلت الأمور إلى مستويات لم تعد تُحتمل، والظاهر من المؤشرات أن الآتي أعظم!
حصرية القرار الاقتصادي والسياسات الاقتصادية في يد الحكومة (بحسب ما نصّ عليه الدستور اللبناني) ما جعل القرارات الاقتصادية الضرورية رهينة الواقع السياسي. هذا الأخير هو بكل بساطة نتاج عوامل منها ثقافية ومنها دينية ومنها الـ "أنا" في الحياة السياسية والتي جعلت بعض المسؤولين يستبدلون السيادة بالسوق، والهوية الوطنية بالطائفية. والنتيجة راديكالية عمياء بين الطوائف على حساب المواطن الذي إزداد فقره وفقد أمنه الغذائي، وأصبح يعيش على وتيرة بورصة دولار تتلاعب بها طبقة أوليغارشية مؤلّفة من تجّار وصرافين وأصحاب نفوذ وغيّرهم!
ما حصل ويحصل هو نتاج ثقافة وممارسات على مرّ السنين أوصلت البلد إلى هذا الحال. نذكر منها:
التّوريط، التدخّل والتّدويل
يرى الباحث هنري لورنس أن تدخل وتورط القوى الأجنبية في الشؤون المحلّية هي المُحرك الرئيس للصراعات الداخلية والخارجية. ويرى لورنس أن الأنظمة الحاكمة في الشرق الأوسط تعمل بهذه الطريقة وذلك منذ عدة قرون، حيث يعمل كل فريق في النزاع على إشراك قوى خارجية في الشؤون الداخلية أو الإقليمية مما يُعزز موقف هذا الفريق، وبالتالي يُعقّد الأزمة التي تأخذ بعداً دولياً. ومن أكثر الأمثلة التي تُجسّد هذا الأمر بحسب لورنس، أزمة العام 1840 حين دعا العرب فرنسا وبريطانيا لطرد الأتراك من أرضهم.
هذا الإشراك يتجلى علناً في لبنان من خلال تدخّل القوى الأجنبية في شؤون محلية بحت بتكليف أو تسهيل محلّي، على مثال إنتخاب رئيس جمهورية أو تكليف رئيس حكومة أو تعيين حاكم للمصرف المركزي التي أصبحت تحتاج إلى موافقات إقليمية ودولية لكي تتمّ.
منطق التخوين
خوّنت الأنظمة العربية بعضها البعض على خلفية الحرب ضد الإمبريالية، وكان نتاج هذا التخوين وصول الأمور إلى مستوى خطير نشأ عنه عدم الاستقرار في هذه البلدان. ولعل إعتماد الرئيس جمال عبد الناصر استراتيجية التخوين بحق بعض الأنظمة العربية وتصنيفهم بعملاء الامبريالية، شكّل نقطة إنطلاق لصراع على السلطة داخل البلدان العربية وفي نفس الوقت صراعاً ضد التدخل الخارجي، وهو ما أضعف الأنظمة العربية. أصعب من ذلك، أخذ هذا التخوين بعداً دينيّاً أدّى إلى "شيطنة" الخصم.
تضارب الروايات
ينص علم الاجتماع على أنّ سرد التاريخ يُنتج لدى عامة الشعب سلوكاً معيناً تتعزز معه المعارضات ويُؤمّن إستمرارها. وبالتالي يأخذ مفهوم الرواية أهمية كبرى كما هو الحال في الشرق الأوسط حيث يطغى هذا المفهوم ويعمل كمصفوفة إجراءات (matrice d’actions). والمُلفت في الأمر أنّ كلًا من الصراع العربي –الإسرائيلي والنزاعات الإقليمية أفرز روايات أصبحت مصفوفات عمل كما هي الحال في لبنان، حيث يمتلك كل فريق روايته الخاصة عن تاريخه وتاريخ لبنان. والمُضحك المبكي أن لبنان لم يستطع حتى الساعة وضع كتاب تاريخ مُشترك!
ثقافة الحرب
ثقافة الحرب، خصوصًا في الشرق الأوسط، تعود إلى قديم الزمان. وقد تم تعزيز هذه الثقافة خلال الحروب الثورية العربية، والصراع العربي-الإسرائيلي، والحرب الباردة. الفكرة الرئيسية وراء هذه الثقافة هو عمل عنيف يمكنه تعديل المعطيات على طاولة المفاوضات. والاشتباكات التي شهدها لبنان خلال تاريخه هي أكبر دليل على أنه وراء كل حرب من الحروب التي عاشها، كانت النهاية الجلوس وراء طاولة المفاوضات وترجمة نتائج الحرب بمكتسبات سياسية!
لاعقلانية الزعماء
يُؤدي تراكم أخطاء أطراف النزاع إلى وقوع الزعماء في أخطاء حسابية دائمة وغير عقلانية. وارتكاب الخطأ يدفع بالزعيم إلى اتخاذ قرار مبني على القرار الأول، وبالتالي ينتج عن ذلك عدة قرارات خاطئة (Corrélation Positive de mauvaises décisions) تُعزّز رأي كل طرف، وقصته ومواقفه. كما وأن غياب المنطق الهدفي (Logique Objective) والتحرر من القيود، يجعل التنبؤ بالأحداث المُستقبلية شبه مستحيل.
الأنا في الحياة السياسية
طقوس للتقرب من الناس، إفراط في الاستجابة للأحداث ومسرحيات لإظهار النفس، هذه بعض الأساليب التي يعتمدها بعض السياسيين لبسط النفوذ. بالتأكيد تغيّرت الطقوس مع الوقت خصوصاً تحت تأثير وسائل الإعلام التي أصبحت سلطتها أقوى من أيّ وقت مضى. وهذا يُبيّن أن الساحة السياسية أصبحت صداماً بين شخصيات بدل أن تكون مبارزة بين أفكار لصالح المُجتمع.
لمواجهة الحياة ومشاكلها، يعمد الإنسان إلى خلق الأنا (Ego). وفي علم النفس، الأنا لا تعني أن يحبّ الإنسان نفسه بدلاً من الآخرين، إنما هو نتيجة عدم محبة الإنسان لنفسه وهذا ما يجعل الأنا يظهر إلى الوجود ويستمر. ومعظم الأشخاص الذين نجحوا في عالم السياسة والأعمال أو في أي مجال أخر، خلقوا حولهم "أنا مع عضلات"، كدروعٍ قرنيّة وشخصيّة قوية. هذا النجاح يُسبب "تورم الأنا" الذي غالباً ما يصبح حاجزاً لا يمكن لصاحبه تخطيه.
لا يخفى على أحد أنّ الأحزاب السياسية في لبنان قوية بنسبة كبيرة، وعددها كبير مما يعني صعوبة وجود ثبات سياسي. وهذا يعني أن الشخص الذي يتحدث بالنيابة عن حزبه، لا يتمتع بشرعية شخصية خارج إطار الحزب. من هذا المنطلق، يعمد السياسي إلى إظهار شخصيته باستخدام الكاريزما والإغواء للقاعدة الشعبية، ولا يتردد في استخدام وسائل الإعلام لإظهار حياته الشخصية. وكردة فعل، يُصبح المواطن متعلّقاً بالشخص أكثر منه تعلّقاَ بالحزب وبأفكاره (François Dubet).
وبالتالي يعتقد المواطن بأنّ مستقبل لبنان والقرارات المُتخذة هي بأيدي عدد قليل من الأشخاص. وبذلك غابت المبادرات من قبل هذا المواطن سواء كان موظفاً أو أستاذاً أو يُمارس أيّ مهنة أخرى. وغياب المبادرة دفع به - أي بالمواطن - إلى الارتهان أكثر وأكثر للأشخاص ذوي النفوذ الذين يعيشون الأنا بأقصى مستوياتها.
المعادلة اللبنانية في ظل هذه الظروف
الأصعب في حالة لبنان هو نشوء أجيال متصلبة تعيش في إلهام الروايات التي تروي التاريخ وفق وجهة نظر الفريق الذي يسرد الرواية. فكيف لنا أن نعيش في وطن كل فريق فيه يُخوّن الفريق الأخر، ويعمد إلى استخدام القوة بهدف تغيير الواقع، ويطلب نجدة القوى الغربية والشرقية لمحاربة الفريق الأخر. كل هذا بالتزامن مع ارتهان اقتصادي كبير يدعم التّطرّف، التشدّد في المواقف والمُتاجرة بمستقبل الوطن وشبابه.
إنّنا إذ نرى استحالة الاستمرار في هذه الحلقة المُفرغة، نرى أنه من الواجب قبل كل شيء قطع الأوصال مع القوى الخارجية للتحرر من الارتهان، وتقبّل الفريق الأخر لنصبح جسماً واحداً في بلد واحد.