خالد أبو شقرا
ينحو الجزء الأكبر من المسؤولين اللبنانيين إلى إدارة المرافق العامة، المركزية واللامركزية، وكأنها أعمالهم الخاصة الموروثة. ما ينطبق على العديد من الوزارات والبلديات والإدارات الرسمية الخِدماتية، يتعاظم في المؤسسات الانتاجية. ولاسيما تلك التي تتميز بطابعها الاحتكاري. فتتكاثر "الزبائنية"، وتزداد التوظيفات السياسية، وتتراجع "المربحية"، وتتوسع العقود الوهمية. فيثرى مدراءها وتفقر الخزينة.
مشكلة إدارة المرافق العامّة من قبل الدولة لا تقتصر على اعتبار الاستفادة غير المشروعة "شطارة"، بحسب "الثقافة" السائدة، إنما بانعدام الاهتمام بتحقيق الأرباح. فالخزينة تتحمّل التعويض من العجز أو الاستدانة في حالات الخسارة، وما أكثرها! والقيمون على المؤسسات "يقطفون" الانتصارات في حالات الربح القليلة، التي يمكن أن تكون أكبر بما لا يقاس، ويصورون القيام بواجباتهم، إنجازاً. وعلى هذا المنوال تحوّلت قطاعات الطاقة والنقل والاتصالات والترفيه... من "نعمة" كفيلة بتحقيق المداخيل الوفيرة، إلى "نقمة"، تُسدد خسائرها من أموال دافعي الضرائب، تغذي الهدف النهائي المطلوب، وهو: بقائها حديقة خلفية للزبائنية السياسية وتمرير الصفقات.
المؤسسة المستقلة لإدارة أصول الدولة
يستهل النائب غسان حاصباني المؤتمر الصحافي المخصص لشرح تفاصيل اقتراح قانون "المؤسسة المستقلة لإدارة أصول الدولة" الذي أعدّه نواب تكتل الجمهورية القوية، بالتساؤل عن مبرر إدارة الدولة اللبنانية لـ "كازينو" و"شركة لتصنيع السجائر"! السؤال الافتراضي، لم يهدف إلى سماع الجواب، بقدر ما أراد منه حاصباني الإضاءة على الخلل البنيوي في وضع مرافق تجارية تحت إدارة السلطة السياسية المتمثلة بالوزارات. ما أدى بها إلى انهيار شبه كامل. وبأن تصبح كلفتها عالية على الدولة، بدلاً من أن تؤمن مداخيل لها وخدمات أساسية لائقة للمواطنين.
تفاصيل اقتراح القانو
يشمل القانون المقترح إدارة الوزارات ذات الطابع التجاري، ومنها الاتصالات والكهرباء والمياه والمرافئ والمطارات والكازينو وحتى سكك الحديد وغيرها، من خلال إدارة خاصة كفؤة. وعلى الرغم من عدم نفي معدي المقترح الصعوبات الكامنة في تكييف الفكرة التشاركية، "إلّا أنّه لا بدّ من التحلّي بالجرأة المطلوبة واتخاذ هذه الخطوة، لأنها تفتح الطريق نحو التعافي والإصلاح" برأيهم. فعائدات هذه المؤسسات تراجعت من حدود 4 مليارات دولار في العام 2019 إلى أقل من 550 مليون دولار راهناً. مع العلم أنه يفترض بهذه المؤسسات تحقيق عوائد بمليارات الدولارات في حال أحسن استغلالها وتنظيمها من خلال مبدأ "التشركة". والمبدأ ينصّ بحسب حاصباني على "بقاء الشركات ملكاً للدولة إنما تخصص إدارتها للمحترفين من أصحاب الاختصاص. وتدقق أعمالها من شركات الرقابة الدولية. فنكون أمام مرافق حديثة ومتطورة تؤمن عائدات سنوية كبيرة للدولة، وتساعد الدولة على دفع حصتها من الديون للمصارف. فتتقلص الفجوة النقدية التي تزيد عن 72 مليار دولار تدريجياً، ويستعيد المودعون الجزء الأكبر من حقوقهم".
زيادة الايرادات من خارج الضرائب وطبع الأموال
خلافاً لحملات التسويق التي تضع اقتراح القانون في خانة بيع أصول الدولة، يرى النائب رازي الحاج أن "إنشاء مؤسسة مستقلة لإدارة أصول الدولة يؤدي إلى تعظيم منافع هذه الأصول، والاستحصال على أعلى مردود ممكن لتعزيز مالية الدولة. وتؤدي مثل هذه الآلية برأي الحاج إلى تقليل الاعتماد في الموازنات العامة على الضرائب والرسوم لزيادة الإيرادات. الأمر الذي ينعكس إيجاباً على القدرة الشرائية للمواطنين وقطاعات الأعمال، ويشجع على عودة الاستثمارات. وتغني من الجهة الأخرى الدولة عن الاستدانة من مصرف لبنان لتمويل النفقات سواء كان بالدولار، أو من خلال طباعة النقود. فتتراجع الكتلة النقدية، وينخفض التضخم وتتحسن القيمة الشرائية للعملة الوطنية. وبحسب الحاج فان "اقتراح القانون هو "تشركة مع القطاع الخاص، وليس خصخصة. والأصول تبقى ملكاً للدولة وتحت إشراف الهيئات الناظمة المستقلة. وتُسلّم الإدارة للقطاع الخاص بعملية شفافة ومراقبة بعيدة عن الزبائنية والمحسوبيات.
منحى مختلفاً
على قدر ما يشدد المحامي الدكتور باسكال ضاهر على ضرورة إبعاد السياسيين عن إدارة مرافق الدولة المنتجة، بقدر ما يخشى من تسليمها للقطاع الخاص اللبناني. فالتجربة أثبتت ان استلام القطاع الخاص لإدارة بعض المرافق سيعزز أرباحه على حساب المواطنين. ويقول ضاهر: "هناك أكثر من منحى لإدارة أصول الدولة بحسب التجارب العالمية. فهناك صندوق استثمار خاص وآخر يجمع بين القطاع العام والخاص على قاعدة الشراكة. إنما ما أراه الأنسب في لبنان هو صندوق لإدارة الأصول من خلال تكوين سلطة إدارية عامة مستقلة من القطاع العام تتمتع بالشخصية المعنوية تتولى إدارة المرافق العامة. ويعود الريع الناتج عن الاستثمار كاملاً إلى الدولة. والفرق بين هذه الآلية وما يطرح من "تشركه" أن كامل قيمة الريع تعود إلى الدولة، ويجري توزيعه على المواطنين. وتضمن هذه الآلية من خلال هيئة مطلقة الصلاحيات يرأسها شخصية دولية مرموقة، إقفال الباب على الفساد المستشري والمحسوبيات وتعيد تقويم الكيان الإداري في لبنان.
تطبيق القوانين والتعهدات
تختلف المقاربات وتبقى النتيجة واحدة: ضرورة إقصاء السياسة والسياسيين عن المرافق العامة، إذا ما أريد للبلد أن يخرج من أزمته. ومن وجهة نظر ثالثة، يكفي لبنان تطبيق القوانين الموجودة والمتُعهد بإقرارها بـ"حرفيتها"، لتنتفي الحاجة إلى أي آلية جديدة. وفي مقدمة هذه القوانين يأتي: إنشاء وتفعيل الهيئات الناظمة المستقلة في الكهرباء والاتصالات والطيران والنقل. وهي الهيئات التي كان قد تعهد بها المسؤولون اللبنانيون قبل أكثر من 20 عاماً أثناء التحضير لمؤتمر باريس 2، وما زالت لغاية اليوم "حبراً على ورق". ويشترط الوزراء المعنيين لتطبيقها، إدخال تعديلات جديدة عليها، تنسف جوهرها وتفرغها من مضمونها الأساسي، لإبقاء سلطة الوزير المطلقة على المرافق التابعة لوزارته.
بعد الانهيار الاقتصادي في نهاية العام 2019، خرجت أصوات تقول إن لبنان "بلداً منهوباً وليس مفلساً"، داعية إلى تطبيق قوانين المحاسبة والملاحقة واسترداد الاموال المسروقة وغير المشروعة. بعدها تستقيم الأمور تلقائياً. وتتراجع معدلات الهدر والفساد. فمن دون محاسبة المرتكبين، وإقصائهم عن مراكز القرار عبثاً يحاول الجميع ابتداع الأفكار من خارج "الصندوق" للخروج من الانهيار.