جاسم عجاقة
الأزمة المعيشية مُستمرّة ومعها تستعر الصراعات السياسية حتى بلغت حدّ الإنقسام العامودي على موضوع التوقيت الصيفي. فالواقع المعيشي يستمرّ في التردّي والذي يستمد استمراريته من باب "اللا فعل" من قبل السلطات اللبنانية كما وصفه صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير والذي شمل وصفًا دقيقًا للواقع الاجتماعي والإقتصادي، بالإضافة إلى سيناريو تشاؤمي أقلّ ما يُقال عنه أنه يُشبه الإنذار الأخير للسلطة السياسية أمام واقعٍ مُؤلمٍ.
لا يحتاج المواطن اللبناني إلى تقرير صندوق النقد الدولي لوصف الواقع الذي يعيشه، فهو يعلم جيدًا أن ودائعه في خطر، وأسعار السلع والبضائع التي يشتريها ترتفع بشكل جنوني من دون أي حق قانوني أو منطق علمي. كما يعلم المواطن اللبناني أن كل القرارات التي تُتخذ يدفع ثمنها من جيبه سواء كانت هذه القرارات إيجابية أو سلبية.
الدولة بمؤسساتها الرقابية عاجزة عن السيطرة على التجار الذين يُسعّرون السلع والبضائع والخدمات كما يحلو لهم. أكثر من ذلك، قامت الحكومة بقرارٍ من وزير الاقتصاد والتجارة بالسماح لتجار المواد الغذائية بالتسعير بالدولار الأميركي وهو ما ضمن لهم أرباحهم و"حبة مسك". إلى هذا لا نعرف حتى الساعة مصدر أسعار الدولار المختلفة المعلّقة في السوبرماركات وإذا كان من رقابة عليها أم أن المعنيين يضعون الأسعار التي تُناسبهم. هذا الأمر ينسحب أيضًا على قطاع المحروقات الذي بدأ يُطالب بالتسعير بالدولار الأميركي، وتبعه قطاع الأدوية ووصل الأمر إلى النقابات العمالية التي بدأت أيضًا تُطالب بدولرة أجور العمال.
كل هذا في ظل جهل مُطبق عن التداعيات للدولرة والتي حذّر منها صندوق النقد الدولي بقوله: "[...] وسيستمر هبوط سعر الصرف والتضخم المتزايد دون هوادة، مما يؤدي إلى تسارع مخاطر الدولرة النقدية المرتفعة بالفعل".
التطورات الإقتصادية والمالية والنقدية والإجتماعية تُشير إلى أن الأمور خرجت عن السيطرة. فعلى الصعيد الإقتصادي، شكل عجز الحساب الجاري في العام 2022 والمُقدّر بأحسن الأحوال بـ 25% من الناتج المحلّي الإجمالي، مؤشّر عن خطورة عملية الإستيراد المُستمرّة على وتيرة تفوق قدرة الاقتصاد على تأمين دولاراتها. فبحسب صندوق النقد الدولي، الإستمرار هل هذه الوتيرة سيؤدّي إلى إستنزاف إحتياطي مصرف لبنان في غضون عدّة أشهر، ولم يستطع القطاع الصناعي أن يحلّ محل الإستيراد في تلبية حاجات السوق على الرغم من زيادة حصته السوقية.
[caption id="attachment_6692" align="alignnone" width="300"] أرقام الإستيراد في العام 2022[/caption]مجموع الإستيراد بلغ في العام 2022 ما يفوق الـ 19 مليار دولار أميركي مع معدل شهري بقيمة 1.59 مليار دولار أميركي يتم إستنزافها في حين الدولارات في الخارج قابعة في حسابات مصرفية تابعة للتجار والنافذين. لهذا شدّد صندوق النقد الدولي على أهمية إقرار قانون كابيتال كونترول وضبط الحدود بما يسمح بإيقاف هذا الإنتحار الذي نصفه بالـ "متعمّد"!
على الصعيد المالي تراجعت إيرادات الخزينة بشكل كبير والناتجة عن الاقتصاد النقدي الذي يمنع جباية الضرائب، وهو ما جعلها – أي الخزينة العامة – تعتمد على تمويل مصرف لبنان! وهو ما يرفضه صندوق النقد الدولي. أضف إلى ذلك أن عدم فعّالية مؤسسات الدولة (كهرباء وإتصالات... وغيرها) خفّض من إيرادات الدولة.
أمّا على الصعيد النقدي، فتراجع قيمة الليرة أمام الدولار حمّل المواطن معاناة كبيرة ورفع التضخّم بشكل مُرعب (ثلاثة خانات بحسب صندوق النقد). وإذا كانت تحويلات المغتربين والسياحة الناتجة عنهم تتسمّ بالأهمية الكبرى في هذه المرحلة، إلّا أن غياب الإستثمارات يجعل من شبه المُستحيل الخروج من الأزمة بحكم أن الدولارات الآتية من المغتربين تذهب لتمويل الإستيراد مثلها مثل موجودات المركزي.
أما على الصعيد الاجتماعي، فالفقر والبطالة ارتفعا بشكل كبير وغابت الخدمات الصحيّة (أو أصبحت مُكلفة)، كذلك الأمر بالنسبة للأدوية. أما القطاع التربوي، فهو مقسوم إلى قسمين: رسمي غائب بحكم الإضرابات والشلل في القطاع العام، وخاص إرتفعت أسعاره بشكل كبير.
عمليًا يُمكن القول إن قدرة لبنان على الإستمرار على هذا النحو لا تتعدّى الأشهر! هذا ما نستنتجه من تقرير صندوق النقد الدولي، الذي طالب السلطات اللبنانية (الحكومة والمجلس النيابي ومصرف لبنان) بإجراءات سريعة ومتناغمة لوضع حدّ للتدهور تحت طائلة الذهاب إلى الأسواء الذي قد لا تتعدّى ساعته الأشهر!
[caption id="attachment_6690" align="aligncenter" width="300"] موجودات مصرف لبنان من العملات الصعبة[/caption]الخروج من الأزمة الإقتصادية يحتاج إلى حلّ سياسي قبل كل شيء يؤدّي إلى إنتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة في أسرع وقتٍ ممُكن. هذا الحلّ هو شرط أساسي ولكنه غير كافٍ، إذ يتوجّب إقرار الإصلاحات التي طالب بها صندوق النقد الدولي – حتى ولو لم تكن هناك من نيّة لتوقيع برنامج مع الصندوق. هذه الإصلاحات تتمثّل بعدد من الخطوات في المرحلة الأولى يليها إصلاحات شاملة في المرحلة الثانية. وقد تتطلب المرحلة الأولى عدّة أشهر إلى عام في حين أن المرحلة الثانية تتطلّب أكثر من عامين في أقلّ تقدير.
من الإجراءات المطلوبة في المرحلة الأولى، نذكر: إقرار قانون كابيتال كونترول، وإقرار قانون إعادة هيكلة المصارف مع تقييمها مما يتطلّب تعديل قانون السرّية المصرفية، وإقرار موازنة العام 2023 وهو ما يتطلّب أخذ قرارات في ما يخصّ الدين العام، وقانون إستقلالية القضاء...
أما في المرحلة الثانية، فالمطلوب كثير نذكر منه: إعادة هيكلة القطاع العام، تفعيل الشراكة بين القطاع العام والخاص (خصوصًا في مؤسسة كهرباء لبنان والإتصالات والمرفأ والمطار...)، إعادة هيكلة القطاعات الإقتصادية بما يتماشى مع التموضع الإستراتيجي والرؤية الإقتصادية، إقرار قانون الصندوق السيادي، مكننة المؤسسات الرسمية، تفعيل عمل الهيئات الرقابية، ضبط الحدود ومكافحة التهريب، محاربة التهرّب الضريبي...
بالطبع يطلب صندوق النقد الدولي الكثير من الإجراءات الأخرى ومن بينها تحرير سعر صرف العملة التي نرى فيها خطوة خطيرة جدًا على الصعيد الاجتماعي حيث أن فساد القطاع التجاري والصيارفة والعصابات الداعمة لها سترفع سعر صرف الدولار مُقابل الليرة في السوق إلى مستويات ستكون لها تداعيات كارثية على المواطن. من هنا نرى أن تحرير سعر الصرف يجب أن يتمّ على مراحل بشكل يمنع المضاربة وهو أمرٌ مُمكن بعد إستعادة الدولة هيبتها.
أيضًا من بين مطالب صندوق النقد الدولي، شطب دين الدولة الذي نرى فيه خطوة سيكون لها تداعيات مُستقبلية على قدرة الدولة اللبنانية على الإقتراض من الأسواق. وإذا كانت دعوة الصندوق لشطب الودائع (وهو أمر مُخالف للدستور اللبناني) لكبار المودعين، نرى أن القانون 44/2015 هو أفضل وسيلة لإستعادة الأموال غير المشروعة التي قد يكون بعض المودعين استحصلوا عليها وإستفادوا من خلالها من الدولة بفوائد عالية. أيضًا نرى في عملية شطب الودائع ضربة كبيرة للثقة بالنظام المصرفي اللبناني حتى ولو وقّع لبنان برنامجًا مع صندوق النقد الدولي وحتى ولو تمّ إنشاء مصارف جديدة.
من هذا المُنطلق، نرى أنه على السلطات اللبنانية في مرحلة التفاوض مع صندوق النقد الدولي، أخذ مصلحة الشعب اللبناني في أعلى مرتبة في سلّم أولوياتها، والإسراع في إيجاد حلّ سياسي يؤدّي إلى إجراء الإصلاحات المنشودة التي ستفتح الباب أمام إستثمارات خارجية طال إنتظارها.