مما لا شكّ فيه أن الواقع الإقتصادي والمعيشي للمواطن، أصبح يفرض مدخول لا يقلّ عن 20 مليون ليرة شهريًا لإكفاء حاجيات عائلة بأربعة أفراد – بحدّها الأدنى. إلا أن مدخول مُعظم الأسر اللبنانية يبقى بعيدًا كل البعد عن هذا الرقم ليجعله رهينة المساعدات الاجتماعية الآتية من عدّة أمكنة (الدولة، الجمعيات، المُغتربين...) ولكن أيضًا منصة صيرفة التي أصبح لها دورًا إجتماعيًا – شئنا أم أبينا – بحكم أنها تسمح للموظّفين بالإستفادة من فارق السعر بين السوق السوداء ومنصة صيرفة.

إذًا من البديهي القول إن الموظفين – سواء كانوا في القطاع العام أو القطاع الخاص – هم الضحيّة الأولى للتردّي الإقتصادي وبالتالي يتوجّب تحسين وضعهم المعيشي. وهنا تبرز المُشكلة! فمن أين سيتم تمويل هذه الزيادة؟

القطاع العام

في القطاع العام مُشكلة الأجور هي مُشكلة كبيرة جدًا، فهذه الأجور تبقى على سعر 1500 ليرة بحسب موازنة العام 2022 وقد تمّ إعطاء مساعدات إجتماعية بقيمة ضعف الأجر الشهري (مما يعني ثلاثة أجور) مع حدّ أدنى وحدّ أقصى. وهذا الأمر إن كان في الظاهر يُساعد موظفي القطاع العام، إلا أنه فعليًا يرفع الأسعار من باب التضخّم حيث أن مداخيل الدولة لا تغطي نفقاتها وبالتالي فإن المصرف المركزي المُلزم عملًا بالمادة 91 من قانون النقد والتسليم تمويل خزينة الدولة، يعمد إلى طبع العملة لتغطية الأجور التي أصبحت قيمتها تتخطّى الـ 3 تريليون ليرة لبنانية شهريًا! وبالتالي ومع العدد الكبير للموظّفين في القطاع العام (الأكثر إحتمالًا أنه يدور حول الـ 330 ألف موظّف)، يستحيل على الدولة الإستمرار على هذا النحو من دون تراجع قيمة الليرة اللبنانية مُقابل الدولار الأميركي.

القطاع الخاص

وضع القطاع الخاص ليس بأفضل حتى ولو أن قسم من موظفي هذا القطاع يقبضون قسم من أجرهم نقدًا وبالدولار الأميركي من دون التصريح الرسمي للضمان عن هذه الزيادة أي بمعنى أخر تدخل في إطار المساعدة الاجتماعية. واليوم هناك حديث عن دعوة إلى اجتماع للجنة المؤشر وذلك "لإقرار" الحد الأدنى للأجور على أربعة ملايين ليرة ونصف المليون ورفع بدل النقل إلى 125 ألف ليرة يوميًا. وإذا كان هذا الأمر هو ببشرى سارة لموظفي القطاع الخاص، إلا أن السؤال هو عن كيفية دفع هذه الزيادة وإذا ما كانت ستتمّ من حسابات الشركات في المصارف مما يعني أن على مصرف لبنان طبع الليرة اللبنانية مُجدّدًا لكي يتم دفع أجور الموظفين بالكاش!

خيارات خاطئة

إذًا ومما تقدّم وعلى الرغم من أحقّية وإلزامية مُساعدة الشعب اللبناني من قبل السلطة السياسية، إلا أن الذهاب إلى خيار رفع الأجور في خضمّ الأزمة سيزيد الأمر سوءًا للأسباب التالية:

أولًا – كل زيادة سواء كانت في القطاع العام أو الخاص ستتحوّل إلى زيادة طلب على طبع الليرة اللبنانية وبالتالي سيزيد من شراء الدولارات في السوق السوداء وهو ما يعني ارتفاع الأسعار مع ارتفاع سعر الدولار في السوق السوداء؛

ثانيًا – رفع القدرة الشرائية للمواطن سيؤدّي حكمًا إلى رفع الطلب على الإستيراد وهو ما يعني زيادة الطلب على الدولار وهو ما يعني إرتفاعه وبالتالي ارتفاع الأسعار؛

ويأتي خيار زيادة الأجور عادة في ظل ظروف إقتصادية أفضل وليس خلال الأزمات، حيث أنه وفي الولايات المُتحدة الأميركية، قسم من التضخّم يعود إلى زيادة الأجور التي أقرّت خلال جائحة كورونا واليوم يدفع الأميركيون ثمن هذه الزيادة.

الحلّ في مكان أخر

من هذا المُنطلق، نرى أنه يتوجّب على الحكومة العمل على تحسين القدرة الشرائية للمواطن من خلال:

أولًا – محاربة التهريب الذي يستهلك دولارات السوق ويحرم اللبنانيين من هذه الدولارات وهو ما ينعكس إرتفاعًا في سعر الصرف في السوق السوداء المُعتمد من قبل التجار. وبحسب تقديراتنا، فإن هناك ما يزيد عن 12 مليار دولار أميركي ذهبت خارج لبنان على شكل سلع وبضائع؛

ثانيًا – مُحاربة السوق السوداء والتطبيقات التي تدعمها والتي تعمل ليلًا ونهارًا حتى في أيام العطل الرسمية وهو ما يدل على التلاعب الكبير بها والذي يعود بالفائدة على التجار الذين شرّعت الحكومة لهم – خلافًا للقانون – الـ Replacement Cost. في الواقع كيف يُمكن تفسير إنخفاض الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية أكثر من 20% ودولار السوق السوداء يرتفع؟

ثالثًا – العمل على الإستفادة من الدولارات التي يتمّ توفيرها من التهريب لدعم القطاع الصحي الذي يُكلّف المواطن مبالغ هائلة ولكن أيضًا الكهرباء التي أصبحت فاتورتها (مولدات + كهرباء) تتخطّى الأجر الشهري؛

رابعًا – إلزام التجار قبول الدفع بالبطاقات المصرفية وهو ما يُشكّل ضغطًا أقلّ على المصرف المركزي وعلى طبع العملات.

خامسًا – إلزام التجار والشركات دفع الضريبة على القيمة المضافة والرسم الجمركي نقدًا بالليرة اللبنانية وهو ما يُساعد على إراحة الليرة اللبنانية من المضاربة.

بالطبع هذه الخطوات يُمكن لحكومة تصريف الأعمال القيام بها من دون الحاجة إلى حكومة أصيلة على أن يبقى الحل الجوهري هو المراد – أي القيام بإصلاحات إقتصادية ومصرفية ومالية ضمن برنامج مع صندوق النقد الدولي.