يخطئ من يؤرخ بداية الحرب على لبنان في 13 نيسان (أبريل) 1975، ولا بأس إن "احتُفل" هذا الأسبوع بـ"يوبيلها" الذَّهبي...

من بقي على قيد الحياة مذ ذاك، هل يذكر أين كان، وماذا كان يفعل، حين وقعت حادثة البوسطة في عين الرمانة؟ هل ما زال في منزله، أم هجر ليتثبت أصحاب المؤامرة من الفرز الديمغرافي الذي أرادوه؟

وماذا تعني سنوات خمسون في عمر وطن احترف الخطر، مذ كان إنسان على أرضه، فصارا، أي لبنان والخطر، توأمين، مثلما هي حاله والحرية؟

أَميل، حين أسترجع تاريخ لبنان، إلى اختصاره بثلاثة أبيات لسعيد عقل، هو الشاعر الأعظم مذ ولد الشعر، المتضلع من هذا الوطن العميق في التاريخ والمتسامي في خدمة الإنسانية، والعارف الأمثل به، وصنوه الأكثر إشراقًا ووضوحًا وتجسدًا.

عنوان هذا التاريخ بيت من قصيدة شاعر "كما الأعمدة" في رثاء شفيق المعلوف عام 1977. صدح: "... وقال من خطرٍ، نمضي إلى خطرٍ/ ما همَّ، نحن خُلقنا، بيتُنا الخطرُ".

وهل من لزوم لشرح؟

وبما أن الخطر بالخطر يذكر، ليس أفضل من بيت للشاعر الذي جَمُلت قصائده أكثر بصوت فيروز، يخبر من يعرف ومن يجهل، من هم أهلُ لبنان، وأيَّ مسايفةٍ مع الخطر يلعبون، حين يدهمهم عدو أو غاصب أو غاز أو محتل، وما أكثرهم في تاريخه الطويل. كتب شاعر "رندلى": "أهلي... ويغلون، يغدو الموت لعبتَهم/ إذا تطلع صوب السفح عدوان".

أما في أزمنة السلم الذي كان يسود، ولو لحظة، فليس لبنان فيها إلا ما تكون عليه الأمم الصغيرة التي تعرف كيف تلعب اللعبة الكبيرة، فتبزّ الكبار عطاء وحضورًا ومعرفة وتأثيرًا وفعلًا، وإذا ما توسعت فليس لكي تحتل، بل لكي تنشر وصية إله الآلهة إيل: "إزرعوا المحبة، تحصدوا السلام". وهل أرقى، لتجسيد هذه الحقيقة، من بيت شاعر "قدموس" القائل: "لا تقل أمَّتي وتحتلَّ دنيا/ نحن جارٌ للعالمين وأهل".

إذًا هي حرب وجود وبقاء مستمرة مذ كان لبنان، على الأقل تاريخًا حضاريًّا قبل ستة آلاف عام. أما الحرب التي ما زال يجرجر أذيال انعكاساتها، فقد شُنت عليه فعلًا منذ انتهاء حرب الأيام الستَّة، بين إسرائيل والعرب، في حزيران (يونيو) 1967. كل القصة، في من اختاروه مسرحًا لتلك الحرب، أن ثمَّة شعبًا فائضًا لا دولة له، في هذا الشرق التَّعس، فليكن لبنان بديلًا منها.

سقطت كل المحاولات لإلغاء لبنان، وكلَّفته مقاومته هذا المشروع الشيطاني آلاف الشهداء، وخسائر بالمليارات، والأدهى أنها أخَّرته عن مواصلة عطائه في خدمة البشرية، هو الذي أسهمت ستة من عطاءاته في ثلثي الحضارة العالمية.

لبنان وطن، قل أمَّة كاملة مكتملة العناصر والمقومات. وجاء من يريد أن يعدَّه خطأً جغرافيًّا، أو جزءًا من كلٍّ، أو لزوم ما لا يلزم، فيجعلَه ساحًا لتصفية الحسابات. وهذا الذي جاء لم يتعب بعد، ولم ييأس، يجترُّ محاولاته اليائسة، لعل وعسى، وليس آخرها هذه المرة، مستندًا إلى جهلة بتاريخ لبنان، وطارئين على نسيجه الاجتماعي والسياسي، إدخال الوطن العاصي على الزوال والانكسار، في سياسة محاور وحسابات ليس له فيها ناقة أو جمل، وسط حملة من التحريض الطائفي والمذهبي غير مسبوقة، وتحدٍّ سخيف، وكبرياء فارغة، وعنجهية طاووسية، لن تنفع من يطلقها، ولن تعيد إليه ملكًا ضائعًا، وهو لم يصدِّق بعد أنه خسره.

بل قل ثمة من يريد أن يجعل لبنان وطنًا للاجئين والنازحين إليه، على الرغم مما يسببه وجودهم فيه من مشكلات وأزمات، على مختلف الصعد، فيما أهلوه يهاجرون من أجل حياة أفضل، فقد أتعبتهم الحرب، ولا طاقة لهم على تحمل المزيد.

يحل 13 نيسان، ذكرى للعبرة لا لاستعادة المناخ الذي أدى إليها... صحيح أن الحرب لما تنتهِ، ولكن بات فيها من العبر والخلاصات ما يكفي لئلَّا نأتي بدبِّها إلى كرمنا، من جديد، كرمى لسواد عيني من أشعلوها قبلًا، هم أنفسهم، ليتلذذوا بمنظر نارها المشتعلة، وفي ظنهم أن عروشهم وكراسيهم، حينذاك، ستكون في مأمن من تلك النار... ولكن، لاتَ ساعةَ مأمنِ!!!