لم تكد تمضي ساعات قليلة إلا وصدر عن مكتب المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف ما يوضح كلامه بشأن لبنان ويدعم رئيسَي الجمهورية جوزاف عون والحكومة نواف سلام. لم يأت الفرق شاسعاً بين ما نُقل عنه وما عاد وأوضحه. قال ويتكوف إن إدارته "غير راضية عن أداء المسؤولين اللبنانيين في التعامل مع حزب الله، ونرفض هذه الطريقة من الالتفاف وتدوير الزوايا التي لم تحقق المطلوب". وكشف عن الطلب من لبنان "التوجه إلى مفاوضات سياسية مباشرة وجها لوجه مع إسرائيل وتكليف شخصية مدنية هذه المهمة". واعتبر أن على لبنان التوجّه إلى المسار السلمي في وقت قريب، وثمة فرصة أمام الرئيسَين جوزاف عون ونواف سلام للمساعدة في هذه المهمة رابطاً مسار الإعمار وعودة الأهالي إلى قراهم في الجنوب بشرط المفاوضات المباشرة. وهدد بأن إسرائيل لن تنسحب من النقاط التي لا تزال تحتلها أو تعالج الخلاف بشأن النقاط الحدودية المختلف عليها إلا بعد تحقيق شرط المفاوضات. في كلامه تهديد ووعيد وربط الأمور ببعضها من الانسحاب إلى الإعمار وسحب سلاح "حزب الله". لاحقاً صدر عن مكتبه ما لا ينفي المضمون بل يؤكد عليه بدليل قوله إن "إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تدعم الحكومة اللبنانية بقيادة رئيس الجمهورية جوزاف عون ورئيس الحكومة نواف سلام اللذين يعملان على بسط سيادة الدولة في جميع أنحاء لبنان وتنفيذ الإصلاحات لتعزيز مؤسسات الدولة وتلبية مطالب الشعب". وبين سطور ما حمله الكلام أو التوضيح تكمن قصة الطلب الأميركي من لبنان الذهابَ باتجاه مفاوضات سياسية مباشرة مع إسرائيل. وقد تبلّغ لبنان صراحة أن الولايات المتحدة تريد منه تشكيل وفد لبناني مدني يختلف في مهامه عن الوفد العسكري الذي يفاوض في الناقورة برعاية الأمم المتحدة. في الطلب الذي تسلمه لبنان لا وجود لوسطاء ولا دور للأمم المتحدة لكأن أميركا لم تعد بوارد الحل بالواسطة وتفرض ما تريد تحقيقه بالمباشر وبالإملاء. وتقول المعلومات إن لبنان يُعِدّ جوابا رسميا على العرض الأميركي، ويتضمن هذا الرد التزامه تطبيق القرار 1701 بعد أن تنسحب إسرائيل من النقاط التي تستمر في احتلالها.
لكن الديبلوماسية اللبنانية "المتناقضة" ما بين موقف الحكومة ووزير خارجيتها، تبدو ضعيفة. وعلى قاعدة لا حول ولا قوة يتعاطى لبنان انطلاقا من خشيته من عواقب رفض الرد الأميركي على تأخير انسحاب اسرائيل واستمرار اعتداءاتها على لبنان. وفي ضوء ما شهدته غزة من عودة جولات التصعيد وقيام إسرائيل بجولة حرب جديدة واستشهاد مئات الفلسطينيين من دون أن يحرك العالم ساكنا، فإن الخوف من أن تعمد إلى تنفيذ اعتداءات كهذه ضد مناطق خارج الجنوب، في الضاحية مثلاً، بحجة استهداف سلاح "حزب الله".
ثمة تحليل ديبلوماسي يقول إن تسريب الخبر الأول ليس صدفة. ففي عالم الديبلوماسية لكل كلمة هدف وغاية. يمكن فهم التسريب بمثابة إنذار للحكومة والعهد من مغبة رفض العرض الأميركي، أما التوضيح فلم ينف الإملاءات حول شرط الاعمار بسحب السلاح وطلب المفاوضات السياسية المباشرة بين لبنان وإسرائيل، بل إن البيان أكد على أن للإدارة الأميركية ملء الثقة بأنها ستعمد إلى التجاوب مع المطالب الأميركية.
غير أن القصة ليست محصورة بلبنان ورده الذي سيكون مرناً بحيث يتجنب الرفض ويصر على انسحاب إسرائيل وتحرير الأسرى كمقدّمة للبحث في النقاط الأخرى المطلوبة، وإنما في المهلة التي حددها دونالد ترامب لإيران بشأن التجاوب معه في الملف النووي. وهي مهلة قد تكون ممنوحة للبنان وللحوثيين في اليمن أيضا. وبعدها ينطلق قطار التسوية التي تسعى اليها الولايات المتحدة تحت عنوان التطبيع وعشية المؤتمر الذي تستضيفه السعودية لبحث مسألة حل الدولتين للقضية الفلسطينية.
ما لا يريده رئيس الجمهورية
وبالعودة إلى لبنان، فالبحث انطلق جدياً في موضوع إشكالي يعتبر رئيس الجمهورية أن القرار بشأنه يَلزَمُه إجماعٌ وطني وتوافقٌ مع رئيسي المجلس النيابي نبيه بري والحكومة نواف سلام حول صيغة الرد والخطوات الواجبِ اتخاذُها بهذا الصدد.
ولن يطول الوقت الذي سيدخل فيه موضوع المفاوضات الدبلوماسية حيّز البحث الجدّي والعلني. ويبدو أن ما يتم بحثه يدور في فلك التحايل على المطلوب من ناحية الإصرار على انسحاب إسرائيل كمقدّمة وتعيين شخصيات معنيّة بالمواضيع قيد البحث ولا تحمل صفة الدبلوماسية لتتولى البحث باسم لبنان حول القضايا العالقة مع إسرائيل.
بكلامه أو بالنفي اللاحق، فإن ما قاله المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف يكشف النقاب عن حقيقة ما يدور في الكواليس الأميركية بشأن لبنان، حيث المطلوب الضغط على الحكومة لاتخاذ خطوات تجاه "حزب الله" وهو ما لا يريده رئيس الجمهورية بينما لا يمانعه سلام وقد بدأ بممارسته على أرض الواقع بدليل زيارته للجنوب من دون التنسيق مع حزب الله ثم حديثه لدى استقباله النائب نديم جميل بالأمس حيث قال إن "موضوع نزع السلاح غير الشرعي يسير كما هو مرسوم له، لان موضوع المساعدات وإعادة الإعمار مرتبط بشكل أساسي بهذا الموضوع".
ماذا عن "حزب الله" بإزاء ما تقدّم؟ لا يحرك "حزب الله" ساكنا أبعد من رفض التطبيع مع إسرائيل أو مجرد البحث اللبناني فيه، وما دون ذلك فلا يزال "حزب الله" في ورشته الداخلية مهادناً وقد طوى صفحة المقاومة بالسلاح في المرحلة الراهنة مفسحا في المجال أمام الدبلوماسية اللبنانية ومدركاً أن زمانه الأول تحول وموازين القوى لم تعد لصالحه وما عليه إلا الانتظار.