إنها المرحلة الأكثر قوة منذ زمن تلك التي يمر بها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وهو الذي حقق إنجازين داخليين جديدين وفرا له تقدما في حربه مع المعارضة السياسية والشعبية ضده.
أولُهما إقرار الموازنة العامة التي كان سقوطها سيعني انهيار حكومته، ثم مصادقة الكنيست الإسرائيلي على مشروع قانون تشكيل لجنة اختيار القضاة، وان كان مصير تلك المصادقة ينتظر طعناً قضائياً، لكن ما حدث يُعد تتويجا لانتصار نتنياهو في معاركه القضائية، هو وائتلافه، منذ أكثر من عامين، تحديداً منذ شنه معركة "الإصلاح القضائي" الذي ينزع صلاحيات القضاء.
يأتي ذلك وسط غالبية بسيطة لليمين الذي يتزعمه نتنياهو، والذي يستند إلى عكازي ثنائي إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، لا تتخطى الـ 67 صوتا من أصل 120 عضوا، هي عماد معسكره اليميني، ليس متيناً لكنه ثابتٌ.
يُحكِم نتنياهو سيطرته على القضاء، بعد أن أحكم سيطرته على الجيش، وسط محاولات للسيطرة على باقي المؤسسات الأمنية. في هذا الوقت لم تنته معركة التخلص من رئيس "الشاباك"، رونين بار، الذي كانت لديه معلومات عن فساد نتنياهو ومكتبه، وآخرها "قطر غايت" وقضايا أخرى، والمستشارة القضائية للحكومة، غالي بهارا ميارا. لكن كل ما يجري يشير إلى أن لا شيء يوقف الرجل الذي يستعمل معاركه الخارجية العسكرية ضد الداخل، ويستثمر نزاله الداخلي خارجيا، بما يفيده في الحربين.
و بقراءة بسيطة للمستقبل القريب اقله، يمكن القول إن نتنياهو، بعد تعزيز قوته داخليا، سيكمل بحروبه الخارجية لكسب المزيد من الوقت ولمواجهة اتهامات الفساد، والخروج أمام الرأي العام الاسرائيلي بوصفه رجل اسرائيل التاريخي الذي يشبه الآباء المؤسسين او أولئك الذين طبعوا اسماءهم في تاريخ الدولة العبرية.
لذا فإن الحروب الخارجية في غزة والضفة الغربية وسوريا ولبنان واليمن ستشكل وسيلته للبقاء في السلطة وتأجيل محاكمته بتهم الرشوة وخيانة الأمانة والاحتيال، والتي تمكن بقوته وبشخصيته الجاذبة وخبرته من تعطيل إجراءاتها القضائية ومن الانطلاق إلى تعزيز ائتلافه الحكومي.
والحال أن الرجل استمر في الحديث عن الخطر على دولة اسرائيل وعن معاداة السامية وعن القتال على سبع جبهات، مستدراً العطف من جمهور وازن يشعر بالخطر وبضرورة استمرار الضغط العسكري على حركة "حماس" من دون مساءلة نتنياهو عن الضائقة الاقتصادية.
في مقابل كل ذلك، تبدو المعارضة في وضع صعب.
فهي تقوم على تشكيلات متنوعة من اليمين والوسط واليسار المنهك، وعلى شخصيات عسكرية وسياسية ومجتمعية.. لكنها غير مجمعة على قضايا واحدة مثلما تفتقر إلى شخصية قيادية جامعة كنتنياهو.
لكن هذا لا يعني أن المعارضة لا تمتلك الأوراق، أو أنها سوف تنتظر حتى موعد الانتخابات المقبلة في تشرين الأول من العام 2026 للتخلص من نتنياهو.
وبما أن اليمين الإسرائيلي ما زال قويا، وقد يقوى اكثر في ذاك الموعد مع أحداث دراماتيكية مستجدة. فإن ثمة أفكار حول ضغوط قد تلجأ المعارضة إليها، خاصة اذا فقد نتنياهو الدعم الذي وفر له الأوكسيجين من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي يرفع نتنياهو شعارا مشابها له في محاربة "الدولة العميقة" ويشرع في الهروب إلى الأمام، وفي التخلص من الرجال المخاصمين له والذين قد يفضحون تقصيره الأمني والعسكري او فساده، ويقوم بتقسيم معسكر أخصامه والاستئثار بالسلطة.
لذا فإن البعض في المعارضة يطرح تطوير الحراك الشعبي والعصيان ليوجع الائتلاف اليميني واستثمار حال التململ في الجيش كما لدى الجنود في الاحتياط مثلا، حتى بات من هو عريق في السياسة الإسرائيلية يتحدث عن حرب أهلية مقبلة او فوضى خلاقة، بينما يشير البعض في معسكر اليمين إلى أن هذا يفيد نتنياهو نفسه ولا يضيره بل يظهر المعارضة بوجه سلبي.
إلا ان المعارضة باتت ترفع الصوت اعلامياً للحديث عن جرائم الجيش وتجاوزات اجهزة الحكومة بما فيها "الشاباك"، وممارسة الضغوط والعنف ليس فقط ضد الفلسطينيين بل في وجه الإسرائيليين أنفسهم، بما يشير الى استعادةٍ لممارسات اجهزة قمعية لأنظمة ديكتاتورية سابقة في العالم، ويخالف صورة الحداثة والتطور التي تظهر المؤسسة الأمنية الإسرائيلية فيها.. كما أن الإعلام الإسرائيلي بات يرفع الصوت كثيراً حول حرب غزة، مطالباً باستعادة "قيم الديمقراطية والحرية عبر التوقف عن قتل الفلسطينيين"، بل استعادة أخلاق وقانونية دولة إسرائيل في حروبها..
المفارقة هنا ان نتنياهو في حديثه عن الجبهات العسكرية السبع التي يخوضها، لا يتحدث عن الجبهة الثامنة والأهم، وهي الجبهة الداخلية التي تشكل التحدي الأكبر له والصائغ لمستقبله، لكن سهامه تبقى موجهة نحوها.
لذا فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي ليس على عجلة من أمره ليتوصل إلى تسوية في الخارج، بل هو في حاجة إلى معارك متتالية كما في غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا.. وفي الموازاة يفشِّل كل مسعى للحل في غزة في استراتيجية مبنية على استمرار المفاوضات عبر جهة ثالثة، اميركية، او عربية سواء مصرية او قطرية، من ناحية، والضغط العسكري الدائم والاغتيلات واعادة الاحتلال، من ناحية ثانية، وهو ما يفسر استمرار التقدم العسكري والقضم التدريجي، وهي خطة وزير الدفاع اسرائيلي يسرائيل كاتس، رجل نتنياهو.