يفتح الأحداث الأخيرة في الساحل السوري، المشهد أمام سيناريوهات شتى يزيدها قتامة أننا ما زلنا في البداية وأن ما يحصل قد لا يقتصر على النسيج المحلي، بل قد يمتد نحو المحيط، الهش بدوره.

السقوط السريع للنظام السابق في أعقاب الضربة التي تلقّاها المحور الإيراني الحامي للنظام، فاجأ حكّام دمشق أنفسهم وراعيَهم التركي، فاعتقدوا باستقرار وهمي ونهائي للأمور في عاصمة الأمويين.

جاء ذلك بعدما انحنى المحور الآخر للعاصفة ولاذ إلى تقيّة عسكرية وسياسية اعتقد معها الرئيس الحالي أحمد الشرع ومن معه، بأن إيران وروسيا باتتا من الماضي، وبأن من الممكن ضرب الحلم الكردي على مراحل وتأجيل حل المسألة الدرزية غير المهددة للنظام. اطمأنّوا إلى هزيمة العلويين والأقليات الموالية للأسد، وبدا لهم أن باستطاعتهم التفرغ بهدوء لتثبيت الحكم وبناء سوريا الجديدة وطلب السند الخارجي لإعادة بناء اقتصاد منهك وإطعام شعب جائع.

هكذا كان الاعتقاد لدى الشرع الذي حكم دمشق بعقلية إدلبية، محيطا نفسه بمواليه وطبعا بمن يرضى عنه الأتراك أوّلا. لكنّ قلّة حنكة ودراية الحكّام الجدد، وممارستهم عقليةً انتقامية جماعية مع المكوِّنات الأخرى تحت عنوان "فلول" نظام الأسد، لا تساعد في تثبيت حكم وتأمين شرعية داخلية أو خارجية يلهث وراءها الحكم الجديد.

والواقع أن هؤلاء الحكام، كغيرهم ممن وصلوا بقوة عسكرية الى رأس السلطة في سوريا منذ عشرات السنين وبدء عهد الانقلابات مع حسني الزعيم العام 1949، لم يحظوا بالراحة من أعداء داخليين وخارجيين لإسقاطهم، وهم الذين لجأوا اصلا الى التآمر لإسقاط أسلافهم. وقد تعرّض حكم الأسد الأب لذلك بعد سنوات من بداية عهده منذ العام 1970، ثم الابن الذي وصل إلى الحكم العام 2000، إلى أن تهيّأت عوامل خارجية وفّرت فرصة الانقضاض عليه بعد 11 عاما عندما تسنت الفرصة وتوافقت الظروف الخارجية لذلك.

هذا بالضبط ما يبتغيه الساخطون على الحكم الجديد في دمشق الذين يتقاطعون جميعا على إشعال النار تحت أقدام الشرع. منهم الذين خسروا المعركة مباشرة مثل إيران وروسيا وغيرهما. وبينهم من يرى في الحكم الإسلامي برعاية تركية تهديدا له مثل الإسرائيلي المتربّص. ومنهم الذين يراقبون ولديهم هواجس من وصول الإسلاميين الراديكاليين إلى السلطة، مثل دول الخليج والعرب عامة، باستثناء قطر الراعية الأساس لحركة "الإخوان المسلمين".

منذ اللحظة الأولى لانهيار حكم الأسد، عقد المتضررون العزم على مقاومة الحكم الجديد، الذي لم يمسك ساحته بقبضة من حديد وبلغت سكرة النصر لديه حدّ إبعاد الحلفاء وتنصيب نفسه حاكما طويل الأمد على بلد منكوب.

شكّل حرق مقام الحسين بن حمدان الخصيبي في حلب بعد أيام على انتصار "الثورة" الامتحان الاول للإدارة السورية الجديدة. فعمّت القلاقل في أرجاء مناطق العلويين، ثم هدأت بعد عمليات قتل قامت بها السلطات.

عمّق ذلك شعور الثقة لدى حكّام دمشق، الذين لم يتّعظوا من التجربة العراقية فحلّوا الجيش السوري وتعاطوا معه كتركة ثقيلة لنظام الأسد. لكنّ تحويل 170 ألف عسكري إلى جيش من العاطلين عن العمل ممّن لا موارد لديهم سواه في بلد يعيش ظروفا بالغة الصعوبة بعد 14 عاما من الحرب الأهلية، وإقصاء كثيرين عن وظائفهم، شكّلا أرضا خصبة لتمرد تحرك بإيعاز من ضباط كبار في الجيش المنحل، في شكل منظم وعبر غرفة عمليات مشتركة، في استثمار للغضب الشعبي وليس فقط تلبية مطالب معيشية.

جاء ذلك في اعقاب خروج الجنوب فعليا من أيدي السلطة، فبات تحت الهيمنة الإسرائيلية، مع فرض منطقة منزوعة السلاح وإطلاق تهديد مباشر للشرع بعدم التقدم نحو المناطق الدرزية وحتى السنّيّة.

وفيما بقي الغليان في المناطق الكردية حيث تتمركز نسبة تقدر بنحو 80 في المئة من النفط، وهي مناطق شاسعة تمتد بين شرقي سوريا وشمالها، ثار العلويون في الغرب حيث الموانئ في الساحل.

والأمر حاصل على غطاء خارجي وجامع للتناقضات. فإيران لن تسكت على رميها خارجا وهي قطعت الغاز والنفط عن سوريا، ولها نفوذ كبير لدى جماعات في سوريا وعلى تخومها من بينها "حزب الله" في لبنان.

والروس يعقدون العزم على العودة وهم احتفظوا بقواعدهم وباتوا حاجة أميركية في محاولة للتوازن مع النفوذ التركي الذي لا يريده أحد من الكبار وتتوجس منه إسرائيل. وإذا كانت إسرائيل تريد التقسيم وحتى التفتيت، فإن الإدارة الأميركية تريد الاستقرار ومراعاة المصالح الإسرائيلية، وإبقاء النزاعات ولا تمانع بنفوذ تركي لكن بتوازن مع الآخرين. وستُبقي، كما اسرائيل، على دعمها الكبير للأكراد الذين يقضّون مضاجع أنقرة ويهدّدون وحدتها الداخلية. وهذا يعني أن واشنطن لا تمانع في إضعاف الحكم في موازاة حفظ استقرار المنطقة.

لذا فإن كبح تركيا جماحَ من يحكمون في دمشق، بالغ الأهمية. فالأمور قد تفلت من عقالها وتهدّد بتقسيم اجتماعي أخطر من الجغرافي، قد يتسلل إلى دول الجوار وتصبح تركيا تحت مجهر التقسيم الجغرافي هذه المرة والعبث بأمنها. وثمة دول كثيرة وقادرة ويهمّها ذلك.

وقد طلب العلويون فعليا الحماية الروسية ودخلت إيران على الخط، وباتت إسرائيل حاكمة في الجنوب وشريكة في الشرق والشمال مع الأميركيين، بينما يحكم الأتراك مناطق السنّة من حلب شمالا حتى دمشق. لكنهم لا يضغطون على السلطة السورية. أمّا الشرع فاضطر إلى الظهور المتكرّر بعد إعلانه النفير العام وجلب مقاتلين أجانب من الشرق وإدلب وغيرهما قبل عمليات القتل، ردا على التمرد المسلح الأخير في مناطق الساحل العلوي. وهو حاول امتصاص النقمة الداخلية والانتقادات الخارجية عبر دعوته إلى التحقيق، مع أنه لم يعلن الحداد، وبات عليه سريعا تحريم الخطاب الطائفي بعدما بات يهدد فعليا النسيج السوري.

يحرص الشرع ومن معه على وحدة سوريا ويريدون تفويت مخطط اسرائيل من ناحية مقابلة. لكن الحل ليس عسكريا، بل بالانفتاح، وهنا يبرز عامل الثقة مع المكوِّنات السورية تمهيدا لدعوة الجميع إلى التفاوض ثم إجراء مصالحة تمهّد لعملية سياسية جدية.

ويتطلب ذلك أيضا مصالحة مع الخارج، خصوصا ذلك الذي يعبث بالداخل السوري.