المشادّة الكلامية في البيت الأبيض نهار الجمعة الماضي، ربما تكون طبيعية عندما تحدث وراء أبواب مقفلة، لكنّ عرضها على الهواء مباشرة صدم الكثيرين ممن شاهدوا هذا النقاش الذي بدأ وديًا ثمّ ارتفعت حدّته وتجاوز فيه المشاركون الأصول الدبلوماسية. فلماذا حدث ما حدث؟
الأمن القومي الاقتصادي الأميركي
معروفٌ أن النموذج الاقتصادي التقليدي المبني على عاملَي رأس المال واليد العاملة (Cobb-Douglas)، لم يعد مُحرِّك نموٍ أساسيٍ في الاقتصادات الكبيرة مثل الولايات المُتحدة الأميركية والصين. فقد وصلت هذه الاقتصادات إلى مرحلة النضوج (Maturity) فأتى عامل التكنولوجيا ليُشكّل المحرّك الأساسي للنمو بالإفادة المباشرة التي يوفّرها للمستهلك العادي. وهو ما دفع الأميركيين إلى التركيز على الأبحاث في التكنولوجيا وكيفية تحويلها إلى سلع وخدمات تجارية. لكنّ هذا القطاع مُستهلك كبير للمعادن النادرة[1] التي تحتكر الصين إنتاج وتكرير ما يُقارب الـ 80% منه.
لكن أوكرانيا تتمتع بموارد طبيعية هائلة، بما في ذلك أكثر من 115 نوعًا من المعادن تُعتبر استراتيجية في الصناعات التكنولوجية والدفاعية ومجال الطاقة وتُقدّر شركة SecDev الكندية قيمتها بـ 26 تريليون دولار أميركي. وبما أن سياسات ترامب التجارية، قد تفرض على الصين رسومًا جمركية عالية، فإن الاعتماد على أسواق غير مستقرة يهدّد القطاعات العسكرية والدفاعية الأميركية التي تعتمد على هذه المعادن، والتي توجد جميعها في أوكرانيا.
من هذا المُنطلق، فإن توقيع اتفاقية مع أوكرانيا للحصول على 50% من إيرادات أوكرانيا من هذه المعادن مُقابل استمرار الدعم الأميركي لها، يَعتبره الرئيس ترامب استراتيجية رابحة لكلا الطرفين، لأنه يرى أن على أوكرانيا تعويض المساعدات التي قدّمتها الولايات المُتحدة الأميركية لها والتي توازي الـ 180 مليار دولار أميركي منذ العام 2014. وفي الوقت نفسه ستنجح الولايات المُتحدة الأميركية في تقليل الاعتماد على الصين معزّزةً أمنها الاقتصادي القومي، ومقوّيةً موقفها في التنافس التكنولوجي والصراع على حصص السوق. ويعزز ذلك أيضاً نفوذها في قلب أوروبا ويُعرقل المحاولات الصينية للسيطرة على الأسواق الأوروبية.
الخلاف القائم على هذه الصفقة يدور حول الضمانات العسكرية التي يطلبها زلنسكي من الولايات المُتحدة والتي يبدو أن ترامب لم يُقدّمها. فزلنسكي يرى أن أي اتفاق على وقف إطلاق النار من دون ضمانات أميركية، لن يُلزم روسيا التي غزت العديد من دول الاتحاد السوفياتي السابق. في المُقابل، لا يريد ترامب إلزام بلاده بأيّ مترتّبات عسكرية إضافية عمّا يُقدّمه في حلف شمال الأطلسي خصوصًا أنه يعتبر أن واشنطن تُنفق الكثير من الأموال على الدفاع عن حلفائها في العالم.
صراع أميركي – أوروبي؟
من السهل ملاحظة التباينات الأوروبية – الأميركية على القضايا الجيوسياسية الرئيسية ولكن أيضًا على المصالح الاستراتيجية والدبلوماسية الدوّلية والسياسات الداخلية لكلا الطرفين. هذا الأمر ترك أثره في العديد من الملفات وعلى رأسها ملف حلف شمال الأطلسي الذي دأب ترامب على مطالبة الأوروبيين بزيادة مُساهمتهم المالية فيه من خلال شراء الأسلحة الأميركية. لكن هل يُمكن اعتبار المُشادّة الكلامية في البيت الأبيض نتيجة لمواجهة "أوروبية-أميركية"؟ الجواب على هذا السؤال ليس بالسهل، لكن يُمكن النظر إلى عددٍ من النقاط الرئيسية التي تُحدّد مسار تطوّر العلاقات الأوروبية – الأميركية منها:
– تباين جيوسياسي في الموضوع الأوكراني: بعد المُشادّة الكلامية بين ترامب وزلنسكي، سارع العديد من الزعماء الأوروبيين إلى التعهد بمواصلة دعم أوكرانيا. وأتى هذا التعهُّد من فرنسا وألمانيا وبولندا وإسبانيا والدنمارك وهولندا والبرتغال وجمهورية التشيك والنرويج وفنلندا وكرواتيا وإستونيا ولاتفيا وسلوفينيا وبلجيكا وليتوانيا ولوكسمبورغ وإيرلندا. هذه المواقف تعكس مخاوف أوروبية من حقيقة التزام الولايات المُتحدة بأمن أوروبا أمام ما يعتبره الأوروبيون أطماع روسيا التاريخية. وزادت المطالبة بأن يكون لأوروبا استراتيجيتها الدفاعية المُستقلّة عن الولايات الُمتحدة، وهو ما يتطلّب استثمار الدول الأوروبية أكثر من ألف مليار دولار لتكوين قدرة عسكرية حديثة لا تعتمد فقط على الردع النووي – الذي تمتلكه فرنسا وبريطانيا، ولكن أيضًا على قدرات تكتية وعملاتية على الأرض تسمح بصدّ القوات الروسية إن هي هدّدت أوروبا. ويتخوّف البعض أن يعلن ترامب وقوفه إلى جانب روسيا ضد أوكرانيا وهو ما يعني الوقوف ضدّ الأوروبيين في سابقة تاريخية قد تكون الأخطر على صعيد العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة. وهذا إن حصل سيفتح الباب أمام إنهاء التحالف الغربي. وإذ يبقى هذا السيناريو ضعيف الاحتمال، إلا أن فوائده الاقتصادية على الصناعة العسكرية الأوروبية ستكون هائلة وقد تُشكّل رافعة كبيرة للاقتصاد الأوروبي مستقبلا.
– علاقات اقتصادية مُتوتّرة: سياسات ترامب الحمائية والتي فرضت رسوما جمركية إضافية على الحلفاء قبل الخصوم، زادت خوف الأوروبيين من "الانزلاق" الأميركي في الاقتصاد العالمي. فهذه الرسوم ستلحق ضررا بالغا بالاقتصادين الألماني والفرنسي. وإذا وقّعت أوكرانيا والولايات المُتحدة اتفاقية المعادن فستُحرَم أوروبا من مصادر أساسية وتصبح رهينة الأميركيين أو الصينيين. ثم إن بعض القادة الأوروبيين يرون في سياسات ترامب تهديدًا للاقتصاد الأوروبي وأن واشنطن خذلتهم في موضوع الطاقة لأنهم كانوا يتوقّعون منها أن تعوّض عليهم عن خسارة النفط والغاز الروسيين.
ماذا بعد ؟
بعيداً عن هذا الصخب، نرى أن ترامب أصبح في موقف صعب:
– ظهر مدافعا عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووضع الولايات المُتحدّة الأميركية في مواجهة جيوسياسية مع حلفائها الأساسيين.
– وقف الدعم لأوكرانيا سيُصنَّفه حكما حليفا لروسيا وهو ما لا يتقبّله الرأي العام الأميركي والغربي.
– ظهر عجزه عن إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية بسرعة بعدما فاخر بذلك في حملته الإنتخابية.
– ظهر عجز ترامب أيضًا عن تحقيق صفقة المعادن التي كانت ستُعتبر أوّل وأهم إنجاز اقتصادي له.
– وظهر عجزه عن استرجاع الأموال التي قدّمتها الولايات المُتّحدة لأوكرانيا منذ العام 2014.
من هنا، نتوقّع أن تبدأ عجلات الدبلوماسية بالدوران مجدداً وبسرعة أكبر لإيجاد حلّ مع الشركاء الأوروبيين الذين يظهرون وللمرّة الأولى موحّدين على ملف جيوسياسي مصيريّ لهم.
أمّا زلنسكي، فمن المُتوقّع أن يكون الضحّية الأولى خصوصًا أن الطريقة التي عومِل بها تنمّ عن ازدراء واضح من البيت الأبيض تجاهه. وتتّهمه واشنطن بالفساد وتطرح أسئلة حول كيفية صرف الأموال التي أرسلتها إلى أوكرانيا. وليس مستبعدا أن يكون ترامب نصب فخّا لزلنسكي لدفعه إلى الاستقالة ومن ثمّ الإتيان برئيس جديد يكون أكثر تعاونًا مع السياسة الأميركية، أي يقبل بوقف إطلاق نار مع روسيا بدون انسحابها من المناطق المُحتلّة ويتنازل عن نصف الثروة المعدنية الأوكرانية للولايات المُتحدة.
أما أوروبا، فيُتوقّع أن تبدأ مرحلة جديدة من التسلّح محورها ردع أي مخاطر خارجية وخصوصًا روسية. ويبقى السؤال عن الموقف البريطاني الذي يصبّ تقليديًا في الجانب الأميركي. لكن فرض زيادات جمركية على صادرات بريطانيا إلى الولايات المُتحدة والدعم الذي أظهرته لأوكرانيا قد يدفعان حزب العمّال إلى العودة إلى الكنف الأوروبي.
وعليه، فإن الوضع الحالي كارثي لأوكرانيا التي ستُحاول استقطاب دعم الحلفاء الآخرين رغم صعوبة تعويض الدعم الأميركي. أمّا الرابح الأكبر فيبقى بوتين الذي أتته المشادة الكلامية بين ترامب وزلنسكي على طبقٍ من فضة. ويُمكن الجزم أنه ربح جولة مُهمّة في صراعه مع أوكرانيا.
[1] كلمة نادرة لا تأتي من منطلق أن هذه المعادن نادرة بل من باب أنه لا يُمكن استبدالها في عملية التصنيع.