عاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من واشنطن وهو يحقق نجاحًا معنويًا في مواجهة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي لم يتراجع قيد أنملة عن مواقفه. إذ إن السياسة الدبلوماسية الفوضوية التي ينتهجها ترامب في ملف أوكرانيا تزيد من هشاشة الموقف الأوروبي. ويرى الأخير أن المساعدات العسكرية المقدمة لكييف في مواجهة الغزو الروسي يجب أن تكون قابلة للاسترداد، مما يعني أن على أوكرانيا سداد التكلفة المالية التي تحملتها واشنطن.

وفي خضم هذا المشهد، يبدو أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بات غائبًا عن طاولة المفاوضات. وكعادته في التفاوض بلا قيود، يطالب الرئيس الأميركي الآن بـ "عائد على الاستثمار" يُقدّر بـ 350 مليار دولار، ويعتزم تحقيق ذلك عبر الاستحواذ على جزء من الثروات المعدنية الأوكرانية كتعويض، ما يمنحه ميزة في سباق السيطرة على "المعادن النادرة" في مواجهة الصين.

كذلك، في ظل هذا الواقع القاتم، تجد أوروبا نفسها عاجزة، وتدرك أن الولايات المتحدة لم تعد تدافع عن نظام قِيَمي يقوم على الديموقراطية والحرية، بل تتصرف كدائن يسعى إلى استرداد أمواله. ووسط هذه التحولات، يفرض ترامب على الحكومات الأوروبية تخصيص ما لا يقل عن 5% من ناتجها المحلي الإجمالي للإنفاق الدفاعي. ولم يعد "الناتو" درعًا لحماية أوروبا من الطموحات التوسعية الروسية، وإذا لم تتحرك أوروبا عبر استثمارات ضخمة في قدراتها الدفاعية، ستجد نفسها مجرد متفرج على مصيرها. فاللحظة حرجة ومفصلية، إذ يواجه النموذج الألماني انهيارًا كاملًا، نظرًا لاعتماده على الغاز الروسي الرخيص، والسوق الصينية المزدهرة لصادراتها، والحماية العسكرية الأميركية، ويأتي ذلك في ظل دخول الاقتصاد الألماني في دوامة الركود.

ومما يزيد الوضع تعقيدًا أن الولايات المتحدة، بقيادة ترامب، صوتت إلى جانب روسيا في مجلس الأمن في قرار غير مسبوق بشأن النزاع الأوكراني، ما يؤكد توجه الإدارة الأميركية نحو تسوية سريعة للصراع من دون إدانة موسكو أو ضمان لحدود أوكرانيا. وفي ظل هذا المشهد، تتزايد المخاوف لدى دول البلطيق، وبولندا وفنلندا، من أن تكون التالية على لائحة الأطماع التوسعية للكرملين. العالم يتغير أمام أعيننا، وترامب، في محاولة منه لمنع روسيا من تشكيل محور مهيمن مع الصين، يغامر بترك أوروبا لمصيرها.

وفي عام 2019، أثار ماكرون الجدل عندما وصف "الناتو" بأنه في حالة "موت سريري"، واليوم، تتردد كلماته بوضوح أكثر من أي وقت مضى.