استحوذت العناوين الاقتصادية على أكثر من ثلث البيان الوزاري الذي نالت حكومة الرئيس نواف سلام الثقة على أساسه. وإذا أضفنا بقية العناوين التي تملك تأثيراً مباشراً على الاقتصاد كسيادة الدولة، والعدالة، والتعليم، واستقلالية القضاء.. لأصبح البيان إنمائياً وتنموياً بامتياز. لكن، ألم تكن كل البيانات الوزارية السابقة مشابهة نصاً ومضموناً!؟ وما الذي يجعل من هذا البيان الاستثناء، وليس القاعدة، التي درجت الحكومات على اتباعها تماشيا مع المثل الشعبي القائل " اسمع كلامك أفرح، أشوف أفعالك استغرب"؟

صحيح أن البيان الوزاري للحكومة اللبنانية الجديدة يطرح تحديات اقتصادية معروفة، "لكنه يأتي في ظل ظروف استثنائية تجعل السؤال عن جدّية التنفيذ أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى"، برأي الأكاديمي والكاتب في الاقتصاد السياسي الدكتور بيار الخوري. "فمن جهة، وصلت الأزمة الاقتصادية إلى مرحلة الانهيار الشامل مع تهاوي العملة وانهيار الطبقة المتوسطة، ما قد يدفع النخبة السياسية، تحت ضغط انعدام التمويل والشروط الدولية، إلى قبول إصلاحات مؤلمة كانت ترفضها سابقاً، كتحميل المصارف خسائرها، وخصخصة قطاع الكهرباء، وإعادة بناء القطاع العام. كما أن اشتراطات صندوق النقد الدولي للمساعدة المالية، إلى جانب تحركات دبلوماسية لاستعادة الدعم الخليجي، تخلق من الجهة الثانية فرصاً لتدفقات مالية قد تخفف من حدة الانهيار".

أبرز العقبات

على الرغم من الواقع المستجد، فان العقبات لا تزال كبيرة. ويمكن تلخيصها بغياب الإرادة السياسية الحقيقية للإصلاح، واستمرار هيمنة تحالفات الفساد، وانهيار مؤسسات الدولة، خاصة في القضاء. "ما يضع مخاطر على قدرة أي بيان على الانتقال من الخطاب إلى الفعل"، بحسب خوري. "كما أن الانقسامات السياسية الداخلية والصراعات الإقليمية، قد تعيد إنتاج الأزمات بدل حلّها.

التفاؤل، وإن كان حذراً، يعتمد على تحوّل الظروف إلى نقطة اللاعودة، التي تفرض على النخب السياسية التنازل عن امتيازاتها. فالبدء بمحادثات مع صندوق النقد، أو اتخاذ خطوات كإقرار قوانين شفافية، "قد تكون مؤشرات أولى"، يضيف خوري، "لكنها تبقى غير كافية دون خطة عمل ملموسة تُترجم خلال أشهر. وبذلك لن يكون البيان الوزاري ما لم يُرفق بإرادة تغيير حقيقية، سوى ورقة أخرى. وهو اختبار فشلت فيه الحكومات المتعاقبة منذ عشرين عاماً".

غياب الحديث عن الآليات التنفيذية

إضافة إلى تحدي التطبيق، "علق" البيان الوزاري في الشق النظري، أو التناول غير العميق لمواضيع تصنف أكثر من ضرورية. فعلى صعيد الودائع مثلا تحدث البيان عن "استعادة أموال المودعين، لكنه لا يُقدّم آليات لتعويض ثروات مُهدرة، ولا حتى لوقف النزيف الحالي"، برأي خوري. "فخطة إنقاذ الاقتصاد يجب أن تشمل محاسبة فاسدي الانهيار، واستثمارات مباشرة في الزراعة والصناعة الخفيفة والتكنولوجيا، وإصلاح النظام المصرفي لاستعادة ثقة المقيمين والمغتربين وغير اللبنانيين بتحويل مدخراتهم. لكن الواقع أن الطبقة السياسية، لن تتنازل بسهولة عن نظام الريع الطائفي، الذي يعتبر الحائل الأساسي دون بناء ثروة وطنية".

إلى رحاب النمو والازدهار

لا ذكر لترشيد الإنفاق

أما على صعيد المالية العامة فقد ركز البيان على انتهاج سياسة رشيدة لتعزيز الإيرادات حفاظاً على ملاءة تؤمن الاستقرار المالي، لكنه لم يذكر تخفيض النفقات، وهي علة الدولة والفساد. "وتحدث البيان عن إعادة هيكلة القطاع العام ومكافحة الفساد، لكنه لم يتطرق مباشرة إلى الإنفاق العام"، بحسب رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك مارديني. وذلك خلافا للنهج العالمي، والذي أخذ الرئيس الاميركي دونالد ترامب موقع رأس الحربة في تطبيقه، من خلال تخفيف أعداد الموظفين والنفقات غير الضرورية. "والطريقة الوحيدة لاعادة هيكلة القطاع العام، وتحسين رواتب القطاع العام وجعلهم أكثر إنتاجية هو تخفيف الأعداد الزائدة، وتسكير جميع المجالس والصناديق والهيئات وأخواتها"، من وجهة نظر مارديني. "الأولوية يجب أن تعطى لضبط الانفاق قبل تعزيز الجباية. وذلك كيلا تذهب الأخيرة، التي تتأتى من دافعي الضرائب، سدى".

الأولويات ليست إجتماعية

في المقابل غاب عن البيان الوزاري وكلمات النواب الخطاب الاجتماعي، كما تلاحظ الزميلة الرئيسية، ومديرة برنامج الحماية الاجتماعية في مبادرة الإصلاح العربي فرح الشامي. "وعلى الرغم من كون الحكومة ذات أجندة إصلاحية، فان هدفها إعادة بناء العقد السياسي وليس الاجتماعي. مع التركيز بطبيعة الحال على تحقيق خروقات في الاقتصاد الكلي (Macroéconomie)، كاستقطاب التمويل الأجنبي لإعادة الإعمار، وهيكلة النظام الاقتصادي السائد، بما في ذلك سياسات التجارة العامة والسياسة النقدية التي تساعد على بناء أسس الدولة". هذا النهج وإن كان مفهوماً، فهو غير مبرر كون الشؤون الاجتماعية (لا نقصد بها الوزارة)، "لا تملك ترف الانتظار إلى حين إنجاز بناء أساسات الدولة"، برأي الشامي. "وقد أتت خطابات المسؤولين، بما فيها خطاب وزيرة الشؤون الاجتماعية نفسها حنين السيد، فضفاضة عامة وغير واضحة، و"مخيفة" في بعض جوانبها. فلم يتطرق البيان الوزاري من قريب أو بعيد إلى الآليات التطبيقية لأهم إجراءين اجتماعيين جرى إقرارها مؤخراً، وهما: الاستراتيجية الوطنية للحماية الاجتماعية، وقانون التقاعد والحماية الاجتماعية. فيما ركزت السيد، على زيادة الإنفاق الاجتماعي، من خلال شبكة أمان (برنامج دعم الأسر الأكثر فقرا الممول بقرضين بقيمة 550 مليون دولار من البنك الدولي). وهي الآلية المكلفة والتي فشلت في إصابة الفقر واهداف التنمية، كونها محدودة، وغير مبنية على مقاربة حقوقية. فيما المطلوب كان المطلوب عناوين تطمئن إلى القيام بإصلاحات تؤمن الحماية الاجتماعية الشاملة."

الأفعال أبلغ من الأقوال

مع وصول انعدام الفرص إلى مستويات كارثية، "قد يُشكل الوعي الوطني المتصاعد قوة ضغط قد تُحدث اختراقاً ما"، يأمل خوري. ويلاقيه بهذه النظرة القطاع الخاص اللبناني الذي يقول على لسان رئيس "تجمع رجال وسيّدات الأعمال اللبنانيين" نيكولا بو خاطر إن "جذب الاستثمارات العربية والأجنبية لا يتطلب رؤية اقتصادية تواكب وتشجع الاستثمارات فقط، كما بينت عناوين البيان الوزاري، إنما ترجمتها أفعالا على أرض الواقع". ومن شأن بدء تطبيق هذه العناوين، المترافقة مع إعادة الدفء إلى العلاقات مع الدول العربية، وتعزيز الاتصالات من خلال الزيارات الخارجية؛ والتي ستكون فاتحتها زيارة رئيس الجمهورية إلى المملكة العربية السعودية بعد أيام قليلة، وتوقيع مجموعة من الاتفاقيات التجارية والاقتصادية، تحفيز النمو وإعادة وضع لبنان على الخريطة الاقتصادية.

العبرة إذاً، تبقى في التطبيق، وانتهاج الوزراء كل باختصاصه نهجاً إصلاحياً بعيداً عن الشعبوية، وتحقيق المصلحة العامة على حساب المصالح الفئوية أو حتى الشخصية. ساعتذاك يطبق ما كتب في البيان الوزاري وما لم يكتب، تلقائياً، ويخرج لبنان من مرحلة المراوحة المستمر بها منذ العام 2001، على أقل تعديل، إلى رحاب النمو والازدهار.