في عمق الأزمة السياسية الراهنة أن العقبة الأصعب التي تعترض تشكيل حكومة العهد الأولى حتى الآن هي حالة الانفصام أو التنافر، بين دينامية التحوّلات الكبرى في الشرق الأوسط وبين ركود أو سكون النهج القديم في إنتاج السلطة اللبنانية، وليست العُقَد السياسية والطائفية المعلَنة التي تعترض التشكيل سوى انعكاس أو صدى أو نتيجة طبيعية لهذا الانفصام.
يلتقي الجميع، سياسيون ومراقبون ومحلّلون وقادة رأي، على القول إن هناك مومنتم باندفاعة إقليمية ودولية نتيجة التطوّرات والمتغيّرات الميدانية والانقلابات السياسية تقاطعت مع إرادة لبنانية داخلية، وأنتجتا الحكم اللبناني الجديد بوجهَيه الرئيس جوزاف عون والرئيس نوّاف سلام، لكنّ هاتَين الإندفاعة والإرادة اصطدمتا بذهنية المنظومة العميقة التي لجمتهما وأعادتهما إلى النمط التقليدي في المحاصصات الطائفية والسياسية وتجاذب مراكز النفوذ.
وفي تفسير الوقوع في هذا العُطْب البنيوي وأسبابه يجب التمييز بين رمزَي الحكم الجديد، فالواضح أن رئيس الجمهورية يظهر أشدَّ التزاماً بالأسس التي أرسى عليها عهده في خطاب القسم، خصوصاً أساسَي المداورة في السلطة وحصرية السلاح في قبضة الدولة، بينما يبدو الرئيس المكلّف أكثر تساهلاً في هذَين الأساسَين وفي معايير تأليف الحكومة، ما أدّى إلى كلّ ما يعتري الوضع السياسي من لوم ورفض و"انتفاضات" داخل أهل بيت "التكليف" من المعارضة إلى "التغييريين" والمستقلّين.
وفي الحقيقة أن هذه "الانتفاضات" من داخل بيت الرئيس نوّاف سلام وجيرانه ومجموعات تسميته ليست في أصلها على خلفية الحصص بل على خلفية الخلل في المكيال الذي كال به، بعدما ثبُت تسليمه بما فرضه "الثنائي الشيعي" من حقائب وأسماء، وبعدما اتضح تشدُّده مع القوى والطوائف الأخرى تحت شعار أحقّيته الدستورية في التشكيل واختيار الأسماء وتوزيع الحقائب.
وقد أدّى هذا الأداء إلى إطلاق معادلة "صيف وشتاء على سطح واحد"، وأثار موجة الاستياءات الواسعة لدى كل شرائح الطانفتَين السنّية والمسيحية، بما فاق النقمة التقليدية التي كانت ترافق تشكيل الحكومات في أسوأ صيغها وأفخاخها السابقة.
والحقيقة أن الدعسة الناقصة الأولى التي خطاها الرئيس المكلّف كانت في قبوله خرق مبدأ المداورة بإبقاء وزارة المال مع ثنائي "حركة أمل" - "حزب الله"، وفي عجزه عن تغيير بعض الأسماء المفروضة، ولم تنجح مسألة توافقه مع "الثنائي" على إسم الوزير الخامس في إصلاح هذا الخلل أو تغطيته على الأقل.
لم يعُد هناك مجال للمكابرة في التصدّي للقرار الأميركي
صحيح أن تسمية النائب والوزير السابق ياسين جابر لوزارة المال لا تثير الكثير من الحساسية التي يثيرها سواه، وقد لا تكون الحضانة العربية والدولية متحفّظة بقوّة عليه، لكنّ عملية فرضه كسرت المعايير التي ألحّ عليها تكراراً الرئيس المكلّف، إضافةً إلى تقرير طبّي دقيق تسرّب من مستشفى الجامعة الأميركية عن حالة جابر الصحية لا يُطمْئن إلى قدرته على ممارسة مهمّته في حقيبة حسّاسة ومحورية في مرحلة النهوض الاقتصادي والمالي، ما يجعل هذه الحقيبة تحت إدارة مباشرة من موكّليه وفريق عملهم المتجذّر في مصالح الوزارة وكواليس وظائفها.
والمسألة الأكثر دقّة في هذا المجال هي أن هؤلاء الموكّلين، أي "الثنائي" وتحديداُ الرئيس نبيه بري، سيجدون أنفسهم أمام محاسبة مباشرة، ليس فقط من القوى السياسية والطائفية في مجلسَي النوّاب والوزراء، بل، وبصورة أَولى، من دول الرعاية المانحة للمساعدات والهبات والودائع والقروض، على خلفية السياسة المالية الخاطئة والفاشلة التي أوصلت لبنان إلى الحضيض الاقتصادي والمالي خلال السنوات العشر الأخيرة.
ولعلّ هذه الضوابط الدولية التي ستواكب عمل الحكومة العتيدة بأكملها، وخصوصاً أداء وزارة المال، هي التي تجعل معارضيّ "الثنائي" يتقبّلون على مضض هذا الاستثناء الظرفي، طالما أن التفرّد بالسياسة المالية لم يعُد متاحاً بفعل وضع لبنان، والشرق الأوسط برمّته، تحت المظلّة الأميركية والصناديق ومؤتمرات الدعم الدولية، وطالما أن قدرة المحور الإيراني على "الممانعة" تلاشت أو تكاد.
ولم يعُد هناك مجال للمكابرة في التصدّي للقرار الأميركي، ومعه القراران العربي والأوروبي، في رعاية الشأن اللبناني، بدءاً من الرئاسة الأميركية للجنة مراقبة وقف إطلاق النار وتنفيذ بنود الاتفاق عليه، وصولاً إلى مهمّة موفدَي الرئيس دونالد ترامب مورغان أورتاغوس وآيريك تراغر اليوم في بيروت بما يخصّ وضع الجنوب والحكومة معاً.
ولذلك، فإن فشل الرئيس المكلّف في استيلاد حكومة تتجاوب مع النفَس التغييري في المنطقة، ولا تأخذ المعطيات السياسية والميدانية الجديدة في الاعتبار، ولا تقطع مع موروثات الحكومات المتلاطمة والفاسدة، ولا تستجيب أولويات الناس، سيرتدّ عليه أولاً وعلى انطلاقة العهد ثانياً، وعلى انتظارات اللبنانيين دائماً.
ولا بدّ من أن يكون التخوّف من الفشل حافزاً لإعادة بوصلة التشكيل إلى اتجاهها الصحيح، وتصويب مسار التفاوض مع جميع القوى بالتساوي، وعلى قاعدة "العدل في الرعيّة" بدلاً من "الظلم... بالفئويّة".
إنها اللحظة التاريخية أمام الجميع، مسؤولين وقوى سياسية ورأي عام، لضمّ لبنان إلى ركب المرحلة الإقليمية الواعدة بالنهوض والاستقرار والازدهار على طريق السلام الذي لا مفرّ منه، بعد أن تنتهي البقية الباقية من وقود الحروب وفلول المحاربين.