ليس معلوماً ما إذا كانت أزمة نظام أم أزمة من نصَّبوا أنفسهم حماةَ هذا النظام وأولياءَ تفسيره. في كلا الحالين تُظهِر الوقائع اللبنانية عقماً في معالجة المشكلات المتكررة على مرّ العهود. لكأنه قدَر اللبنانيين أن يبقوا رهينة الخارج وأتباعه، ليس بإرادتهم وهم التوّاقون إلى الحرية وسيادة القرار، وأنما بإرادة من نصّبوا أنفسهم رعاة لطوائفهم وزعامات على رأسها.
مناسبة الكلام هي العقبات التي تعترض تشكيل الحكومة. فلا يزال رئيس الحكومة المكلَّف نواف سلام أسير العقد ذاتها منذ تكليفه تشكيل الحكومة: صحّة التمثيل وتوزيع الحقائب وأسماء المرشحين لتولّي الحقائب الوزارية. تفضي مراجعة سريعة لأرشيف تشكيل الحكومات في لبنان الى الاستنتاج أن القديم لا يزال على قدمه. عراقيل بالجملة وخلافات على توزيع الحقائب السيادية وتلك الخدماتية والثالثة الأساسية. بالعرف تم تصنيف الحقائب الوزراية، وبالعرف ذاته صار توزيعها على الطوائف نسبة لحجم تمثيلها في البرلمان.
بالعودة إلى التاريخ، وفي زمن الوجود السوري، كان تشكيل الحكومات يتم بقوة الفرض. تشكل الحكومات في مكتب غازي كنعان في عنجر بعد سيل من الاتصالات الشاكية لرئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة.
كان اللبناني يستنجد بالسوري الذي وجد فرصته في السيطرة على القرار اللبناني والإطباق عليه عسكرياً وسياسياً. خرج السوري من لبنان، بقي واقع الخلافات على حاله. يومها قيل إن لبنان يحتاج إلى وقت أو إلى فترة انتقالية ليعتاد على تحديد مصيره بنفسه. وقعت سلسلة أحداث أمنية وكبر الخلاف السياسي فدخلت قطر على خط المعالجة ومعها سوريا وفرنسا وكان مؤتمر الدوحة الشهير. قرأ فيه البعض محاولة من قطر لإنهاء عهد الطائف. بعدها حاولت فرنسا إعادة تشكيل السلطة وباءت محاولاتها بالفشل مرات ومرات. حتى السعودية لعبت دورا ولا تزال كضابط إيقاع للواقع اللبناني. الى أن برز دور الخماسية مؤخراً والتي لعبت دورا في رئاسة الجمهورية وها هي تتحرك على خط تشكيل الحكومة.
يرى البعض أنها ليست مسألة طبقة سياسية بل أن أصل المشكلة على صلة بالخلل الوارد في اتفاق الطائف الذي يلزمه وجود حكَم في كل مرة يتمظهر الخلاف على تشكيل الحكومات وتوزيع الحقائب أو يثار الحديث عن صلاحيات رئيس الجمهورية مقابل صلاحيات الرئيس المكلف وحدود حكومة تصريف الأعمال.
دستور مختلف على تطبيقه وتفسّره كل طائفة على مقياس مصالحها وزعيمها لا يمكن أن يعيد بناء نظام صحّي يمكن الركون إلبناء بلد.
خرجت سوريا، تغير رئيس فرنسا مرات عدة، ومن الوالد إلى الولد تسلم ولي العهد السعودي الإرث اللبناني بخلافاته ذاتها، وبقيت قطر في محاولات التسلل لحجز موطئ قدم لها في الملف اللبناني. من قال إن التاريخ لا يعيد نفسه.
يبدو أنّ من يريدون المشاركة في الحكومة يطلوبون من سلام تحويل مجلس الوزراء إلى مجلس نيابي مصغر
لكن ربما كان التاريخ بريئا من التهمة والخلل هو في العقليات التي لا تجد مبررا أو ضمانة لوجودها إلا من خلال التقوقع خلق الطائفة وإبراز عضلاتها في تشكيلة حكومية مطلوب أن تكون مصغرة تقوم على اختيار أصحاب الكفاءات وليس المحازبين. علما أن الأحزاب يفترض أنها ظاهرة صحية لأي بلد إلا في لبنان، حيث اقترن وجودها بعامل قلق للمواطنين على اختلافهم.
في تشكيلة سلام يتكرر الواقع ذاته، زعماء طوائف ورؤساء أحزاب يعتبرون أن لهم الحصة الوازنة في الحكومة. بعضهم يتعاطى بعقلية المنتظر ويريد التشفي من الطرف الضعيف. طرف آخر يريد ومن خلال اصراره على حصرية التمثيل والتسمية واختيار الحقائب في الحكومة، التعويض عن مسلسل خساراته المتراكمة. منذ تكليفه لم يشترط سلام أبعد من أمور بديهية لتشكيل حكومته: أصحاب الكفاءة وفصل النيابة عن الوزارة وتعهد الوزراء عدم الترشح للانتخابات النيابية. اعتقد القاضي الآتي من أعلى موقع حقوقي في العالم أن الأوضاع كما يتصورها ستسهل عليه مهتمه. وفي ظرف عشرة أيام اصطدمت أحلامه بالوقائع. وجد أن الزعماء يبحثون عن محاصصة وأن الحكومة عبارة عن قطعة جبنة لكل طائفة نصيبها، والحقائب جوائز ترضية واذا به يصطدم على الورق بحكومة، لو قُدِّر له تشكيلها على مقاسهم لتحولت إلى متاريس طائفية وحزبية، يسعى كل طرف لتطويق الطرف الثاني ومحاصرته داخل هذه الحكومة.
أليس الهدف تشكيل فريق عمل وزاري ينهض بالبلد؟ أولا يفترَض بمجلس النواب أن يبقى متأهبا لمساءلة الحكومة على عملها؟ يبدو أنّ من يريدون المشاركة في الحكومة يطلوبون من سلام تحويل مجلس الوزراء إلى مجلس نيابي مصغر، يراقبه جمهور اللبنانيين ويندمون على ساعة مجيء رئيسه.
رب قائل إن السبب في التدخلات الخارجية المتواصلة منذ زمن الوصاية السورية هو العقلية اللبنانية التي لا تزال سائدة. وكانت مفارقة منذ مدة أن يشكر رئيس الجمهورية للسعودية مساعدتها على انتخاب الرئيس. اعتراف ضمني بدور السعودية في انتخاب الرئيس وتسمية الرئيس المكلف، والحبل على الجرار حيث تنشط الاتصالات بمساعد وزير الخارجية السعودي يزيد بن فرحان للتدخل في تشكيل الحكومة ويمتنع عن الإجابة، ويحاول نواب التغيير أن يكون للسفارة الأميركية دورها في تذليل العقبات من أمام الرئيس المكلف ودفعه باتجاه عدم اشراك الثنائي في الحكومة.
خرج السوريون ولا تزال السيادة تلطم قدرها أمام أبواب السفارات وعند مداخل الرئاسات الرسمية. هل هو القدر أم أن العلة في الدستور والطائف الذي يحتاج تفسيره إلى طائف ثان وثالث. فكيف لطائف مختلف على تفسيره أن يؤمن العبور الى نظام جديد وقيامة جديدة لوطن اعتاد مسؤولوه التبعية فكانوا أول من احتفل بخروج السوري وأول من اندفع لمباركة العهد الجديد برئاسة أحمد الشرع.
من أزمة إلى أزمات ينتقل الرئيس المكلف وعينه على من ينقذه من ورطة التشكيل. كلمة سره مع السعودية قالها له مرة وزير الخارجية أنْ شكِّلْ حكومة أمر واقع فماذا لو شكلها؟ وهل يجرؤ الرئيس المنتخب حديثا على توقيعها لتكمل دورتها باتجاه مجلس النواب؟ أم أن المحاولات ستتكرر لأيام وأشهر وربما سنة. ألم يستغرق تشكيل حكومة تمام سلام 11 شهراً لتصل بلا زخم وينتهي العهد قبل أن يبدأ؟ مرتا مرتا تهتمين بأمور كثيرة والمطلوب واحد. فمن يقتنع؟.